«مصر أولى بأبنائها ولو كان أحمد تواصل مع الجهات المعنية فى مصر، لكان اختصر على نفسه خطورة التعرض للموت فى رحلة هجرة غير شرعية، ولتم علاج شقيقه» كان هذا تعليق وزارة الخارجية المصرية على لسان المستشار أحمد أبوزيد، المتحدث باسم الوزارة تعليقا على واقعة سفر الطفل أحمد ذو الـ13 عاما فى هجرة شرعية إلى إيطاليا بحثا عن علاج لشقيقه فريد ذو الـ7 سنوات من مرض خطير بالدم.
وتتلخص قصة الطفل الملقب بـ«بطل لامبيدوزا الصغير» فى أنه سافر فى قارب من قوارب الهجرة غير الشرعية مخاطرا بحياته، من مدينة كفر الشيخ إلى إيطاليا وعبر البحر المتوسط، أملا فى إنقاذ شقيقه من المرض.
لم يكن أحمد يحمل معه سوى شهادة طبية عن مرض شقيقه الصغير، وتوسل للسلطات الإيطالية لمساعدته، وتعاطف الرأى العام الإيطالى معه تعاطفا شديدا ووصفوا قصته بالمغامرة الأسطورية، وعرض أكبر المستشفيات علاج شقيقه، وطالب رئيس الوزراء الإيطالى السلطات المختصة بتقديم كل المساعدات اللازمة للطفل وأسرته، وإقامة جسر جوى لنقل المريض وأسرته إلى إيطاليا.
ويبدو أن وزارة الخارجية المصرية التى علمت بقصة الطفل المصرى من وسائل الإعلام الإيطالية شعرت بالحرج أمام العالم، وأرادت حفظ ماء وجهها ووجوه المسؤولين المصريين، مما اضطر المستشار أحمد أبوزيد، المتحدث باسم الوزارة، إلى التأكيد على أن الطفل لو كان تواصل مع الجهات المعنية منذ البداية، لكان اختصر على نفسه خطورة التعرض للموت فى الرحلة، ولتم علاج شقيقه، وهو بالتأكيد ما يخلو من النظرة للواقع المرير الذى يعيشه المرضى فى مصر.
فقصة الطفل المصرى الذى كادت أن تكون حياته ثمنا لمغامرته، يتساوى فيها مقدار المرار والهوان مع مقدار بطولة الطفل ووفائه ورغبته فى مساعدة أخيه، وتلخص قصته مأساة الكثيرين غيره ممن يضن عليهم الوطن والمسؤولون فى الحصول على دواء يخفف آلامهم وأمراضهم.
وتشهد صفحات الجرائد والمواقع يوميا ومنها «انفراد» عشرات القصص الإنسانية لمرضى أطفال وشيوخ أكل المرض من أجسادهم وطرقوا جميع الأبواب بحثا عن العلاج، واعتقدوا واعتقدنا معهم أن نشر مآسيهم فى وسائل الإعلام المختلفة سوف ينهى آلامهم، وأن وزارة الصحة ستتحرك لعلاجهم، ولكن لم يجد الكثير من هذه القصص أى استجابة حكومية، ولم تتلق الصحف أى استجابات عليها سوى من بعض فاعلى الخير، فهل تنتظر الحكومة أن يهاجر كل المرضى الذين تركتهم فريسة للمرض فى هجرة غير شرعية بحثا عن حكومة أخرى تخفف آلامهم وتستجيب لاستغاثاتهم؟
هل سأل وزير الصحة نفسه والسادة المسؤولين: كم بابا فى مصر طرقه أحمد وأسرته لعلاج شقيقه فريد دون أن يجدوا استجابة؟ وكيف وصل هذا الطفل لهذه المرحلة من اليأس فى أن يجد منقذا بين مسؤولى الحكومة ينقذ شقيقه من آلامه، وكم مريض غيره يعيشون نفس المأساة؟
من بين هذه الحالات أطفال مرضى بأمراض نادرة، ومنهم الطفلة نانسى محمد أول طفلة مصابة بمرض متلازمة الذئبة النادر فى مصر والتى عجز والدها البائع المتجول عن توفير نفقات علاجها الوحيد بجلسات الليزر والتى تكلفه 3 آلاف جنيه شهريا، وحالات عشرات الأطفال المصابين بأمراض خطيرة ومزمنة ومنهم الأطفال مرضى حساسية القمح والذين نشرنا العديد من القصص التى تجسد معاناتهم.
ومنهم الطفل مصطفى الطيب ذو الـ7 أعوام ومئات مثله من الأطفال المصابين بحساسية القمح، حيث يعانى مصطفى من المرض منذ ولادته ويعجز والده الفرّاش المعاق عن توفير علاجه أو طعامه، حيث يحتاج الأطفال المرضى بهذا المرض إلى أطعمة خاصة غالية الثمن وخالية من الجلوتين يتم استيرادها من الخارج وتتجاوز 2000 جنيه شهريا، وإذا تناول أى منهم طعاما عاديا يصاب بالنزيف، وبسبب عجز الأب الذى باع أثاث منزله عن توفير نفقات علاج وطعام الطفل، أصيب ابنه بضمور فى الأمعاء وأصبح مهددا بالسرطان، ورغم نشر مأساة مصطفى بـ«انفراد» لم يتحرك أى مسؤول لإنقاذه، وهكذا حال مئات الأطفال المصابون بنفس المرض.
العجز عن العلاج ويأس المرضى من استجابة المسؤولين دفع أبا لترك طفلته الرضيعة المصابة بثقبين فى القلب وانسداد بالشرايين وتحتاج إلى جراحة عاجلة على أحد مقاعد العيادات الخارجية بمستشفى المحلة العام وهرب تاركا رسالة تؤكد عجزه عن علاجها وفقره الذى أعجزه عن علاج أمها التى ماتت بالسرطان، وأنه ترك الطفلة أملا فى إنقاذها حتى لا تموت معه كما ماتت أمها.
ووصل الأمر ببعض المرضى إلى رفع قضايا أمام المحاكم للحصول على الدواء، ووصل عدد الأحكام القضائية التى صدرت لإلزام الدولة بعلاج المصابين بأمراض نادرة ومزمنة إلى 2500 حكم قضائى خلال عام 2016، صدرت من محكمة القضاء الإدارى بالإسكندرية الدائرة الأولى بالبحيرة فقط، وأكدت المحكمة فى حيثياتها أن امتناع التأمين الصحى ووزير الصحة عن تقديم العلاج للمرضى هو أبشع أنواع الجرائم، وأن تقديم العلاج واجب قانونى ودستورى وإنسانى على الدولة تجاه مواطنيها.
كنا نظن أن قصة الطفل أحمد ستقلب الدنيا رأسا على عقب، وأن تشعر الحكومة والمسؤولين بالخزى، ويتم الإعلان عن إجراءات عاجلة لإنقاذ آلاف المرضى الذين يعانون من أمراض خطيرة ونادرة ومزمنة من ذل المرض والبحث عن الدواء، ولكن كالعادة لم يتحرك أحد ولم تتحرك وزارة الصحة التى تتهرب دائما من مسؤولياتها فى علاج أمراض كثيرة أو تمنح المرضى جرعات علاج لا تكفيهم أو لا يجدون فى مستشفياتها مكانا يداوى آلامهم. وإذا كانت الدولة تحث المواطنين دائما على شد الحزام وتدعوهم للصبر على إجراءات خفض الدعم وزيادة رسوم وأسعار بعض الخدمات، فعليها أن تلتزم بأبسط مسؤولياتها فى علاجهم بكرامة ودون ذل أو تدعوهم للهجرة إلى إيطاليا حتى يجدواً علاجاً لأمراضهم وأمراضها.