من الأمور العصية على الاستيعاب، تلك التى تحاول فيها تحليل ما يحدث داخل مجلس النواب الآن، سواء ما يتعلق بعلاقته بالصحافة والإعلام، أو المرتبط بفهم النواب لطبيعة عملهم العام، أو حتى ذلك الاتجاه الذى يدفعك للتفكير فى شكل تعامل نواب الشعب المصرى مع بعضهم البعض.
من يتعرض للعمل العام عليه تحمل "قوارص الكلم"
دون التعمق فى القانون، وحقوق الشخصيات العامة وواجباتهم، نذكر نوابنا - القدامى منهم والمستجدين – بقول فقيه القانون الدكتور محمد عبد الله فى كتابه جرائم النشر، «إن درجة تحمل الشخص العادى للنقد، تتناسب طرديا مع نوع المسؤولية وجسامتها، فكلما كان الموضوع الذى تصدى له حساسًا متصلاً بعواطف الجمهور، وكلما كانت المسؤولية التى يتحملها جسيمة، زاد من ينبغى أن يتحمل من وطأة حرية الفكر فى الشؤون العامة بالنسبة للرجل العام.
وفى حكم لمحكمة النقض «المحكمة العليا» عام 1924 قالت إنه «من المتفق عليه فى جميع البلاد الدستورية أن الطعن فى الخصوم السياسيين بنوع عام يجوز قبوله بشكل أعم وأوسع من الطعن فى موظف عام بالذات، وإن الشخص الذى يرشح نفسه، للنيابة عن البلاد يتعرض عن علم بأن يرى كل أعماله هدفًا للطعن والانتقاد"
قبل أكثر من 90 عاما من الآن تحدثت محكمة النقض عن تعرض الشخصية العامة لـ"قوارص الكلم"، طالما أن الأمر فى الأساس موجه لطبيعة عمله، وليس لحياته الشخصية، ورغم ذلك نتحدث عن تقييد الصحافة عام 2016 ، ومن أين تخرج هذه المطالبات؟.. من البرلمان المصرى العريق !
سباب وخوض فى الأعراض واتهامات بالقوادة فى البرلمان
فى الجلسة العامة للبرلمان، اليوم الأربعاء، مرر النواب مادتين بقانون الخدمة المدنية، رغم وجود شبهة عدم دستورية – حسب رأى مجلس الدولة - ، ثم تفرغوا للهجوم على الصحافة والإعلام، وبدأت المطالبات بالملاحقة القضائية لإعلاميين وصحفيين، وتطور إلى سب البعض، فيما رآى آخرون ضرورة تفرغ البرلمان لإقرار مواد تضع الحدود للصحافة وحرية الإعلام !
يحدث ذلك فى البرلمان الأكثر جدلا ، والأقل تعرضا للنقد فى تاريخ برلمانات مصر، يطالب النواب بتأديب الصحفيين، فيما يفشلون فى وضع تصور عام حتى لتعاملهم مع بعضهم البعض، ما جعلنا نرى المعارك الساخنة، والسباب المتبادل، والخوض فى الأعراض، والاتهامات بالقوادة، فهل كان الصحفيون طرفاً أو سببا فى معركة من معارك النواب الدامية؟ .. أم كان عليهم خيانة قلمهم ومهنتهم، وتضليل المجتمع بصورة مبهجة، ليست موجودة بالأساس؟ّ!
على عبد العال أوصى نوابه بمراعاة "آداب الحديث" مع بعضهم
لن أرصد كل معارك النواب، ولا حتى اتهامات رئيس المجلس لبعضهم بالعمل على تخريب البرلمان، سأكتفى فقط بما حدث فى جلسة الأحد 28 أغسطس، عندما تشابك نائبان بالألفاظ البذيئة، وتبادلا اتهامات بالأخونة، وأخرى بالقوادة، فلم يكن من الصحافة إلا نقل الواقع مدعما بالصور والفيديوهات، دون التدخل برأيها، فلماذا لا يبحث البرلمان عن وضع أسس لآداب الحديث بين النواب، قبل الحديث عن تأديب الصحافة؟! .. وبالمناسبة مصطلح اتباع "آداب الحديث" من أكثر المصطلحات المستخدمة من الدكتور على عبد العال لنوابه، وربما قالها لهم أكثر ما تحدث عن القوانين، ومن ثم فإن الحاجة لمراعاة آداب الحديث هنا بشهادة كبير أهلها ، وليس مجرد شاهد عادى.
إسقاط وإهانة البرلمان بالتخوين والسب وليس بالنشر
فى علاقة البرلمان بالإعلام، لا يمكن للمزايدين ان يتهموا الإعلام بمحاولة إسقاط البرلمان، ولا حتى بإهانته، ذلك أن الحديث عن التخريب وإسقاط مجلس النواب، قيل فى سياق زيارات خارجية سميت بـ"المشبوهة" لبعض النواب، والتعامل مع منظمات قال البرلمان أنها مشبوهة أيضا، فلم يكن من فعل ذلك صحفيا، بل كان نائبا، ثم الحديث عن إهانة البرلمان، مردود عليه بسؤال واحد مفاده، "هل تبادل صحفيان السباب تحت القبة؟... هل تبادل صحفى مع نائب الشتائم؟ ... إذا كانت الإجابة بـ"لا" وهى كذلك، فلماذى يركب المزايدون الموجة، ويتحدثون عن النقد فى عمل البرلمان، بتصويره على أنه إهانة للمجلس؟ّ
مؤكد أن الفترة الحالية لا تحتمل مزيدا من الشد والجذب بين مؤسسات الدولة، ولكن اليقين أيضا أن محاولات التأليه، وإضفاء القدسية على عمل البشر "مرفوضة" ، والمرفوض أكثر منها المغالطات، والعمل بشعار " رمتنى بدائها وانسلت"، فلا الإعلام يسعى لتخريب البرلمان بزيارات خارجية أو داخلية، ولا الإعلام يسب أو يشتم، بل على العكس ، كل هذه الأخطاء تحدث من نواب الشعب تحت القبة، وليس من الصحفيين، فلماذا فتح جبهات إضافية لمعارك وهمية ؟!