يعتمد البرادعى على مقولة "آفة حارتنا النسيان" فى كل أزمة يختفى، ثم يعود للظهور مرة أخرى محاولاً غسل سمعته وكأن شيئاً لم يكن، وكأن صفحته بيضاء لم تتلوث بتحريض ولا بمواقف متأرجحة لمسك العصا من المنتصف، ولا بكونه أحد الأدوات المميزة للغرب فى المنطقة، بدءًا من العراق ووصولاً إلى ما سميت بدول "الربيع العربى".
الدكتور محمد البرادعى دائم الاعتقاد بأن حربنا على الإرهاب والجماعات الإرهابية تدخل فى نطاق "العنف المتبادل"، واليوم نراه وقد تخلى عن ألغازه "التويترية" وأصدر ما أسماه ببيان غسل اليدين، محاولاً بلغته الدبلوماسية المنمقة وتوصيفاته الغربية المختارة بعناية أن يأخذ متابعيه إلى جهة أخرى بخلاف ما حدث فى أعقاب ثورة 30 يونيو.
البرادعى الذى استقال من منصبه كنائب للرئيس للعلاقات الدولية فى 14 أغسطس 2013، يحاول التقرب أكثر من جماعة الإخوان الإرهابية، وربما يعطيها مبررا للتحرك أكثر، أو بوصف أدق، يمنحها شرعية التحرك قبل 11 -11، ببيان ملىء بمجموعة من الأكاذيب التى لا تنطلى على أحد، لكنه يستخدم منصبه السابق كمدير للوكالة الدولية للطاقة الذرية، فى محاولة تثبيت هذه الأكاذيب، التى جاء على رأسها ادعائه أنه حينما شارك فى اجتماع القوى السياسية مع القوات المسلحة فى 3 يوليو 2013، وأنه فوجئ فى بداية الاجتماع أن محمد مرسى "كان قد تم احتجازه بالفعل صباح ذلك اليوم من قبل القوات المسلحة، دون أى علم مسبق للقوى الوطنية"، وهو قول يتنافى مطلقا مع ما سبق وأكده البرادعى فى هذا الاجتماع، والذى تمت إذاعته على الهواء مباشرة، فالبرادعى خرج من الأجتماع متوافقاً مع جميع الحضور على كل الخطوات والإجراءات التى تم تنفيذها أو الاتفاق عليها، بل إنه قال نصا: "اتفقنا على خطة الطريق، تضمن تحقيق المطلب الأساسى للشعب المصرى فى تحقيق انتخابات رئاسية مبكرة من خلال فترة انتقالية، يتم فيها تعديل الدستور لنبنى معا ونتوافق على دستور ديمقراطى يحفظ حقوقنا.. وخطة تضمن كذلك مصالحة وطنية من خلال إنشاء لجنة للمصالحة الوطنية لنعود مرة أخرى شعبا متصالحا مع نفسه، متسامحا مع نفسه ومع غيره"، وهو ما يؤكد أن البرادعى كان على علم بكل الإجراءات إن لم يكن هو طرف فيها منذ البداية، وإلا لماذا قَبِل أن يكون نائبا للرئيس، بل وطلب قبلها أن يكون رئيسا للحكومة.
هو يحاول فى بيانه أن يجمل نفسه، بقوله إنه أُجبِر على قبول ما تم الاتفاق عليه فى الاجتماع، تحت ضغوط الأولوية، أو كما قال فى بيانه: " فى ضوء هذا الأمر الواقع - رئيس محتجز وملايين محتشدة فى الميادين - أصبحت الأولوية بالنسبة لى هى العمل على تجنب الاقتتال الأهلى والحفاظ على السلمية والتماسك المجتمعى من خلال خارطة طريق - تمت صياغتها فى عجالة - بنيت على افتراضات مختلفة بالكامل عن تطورات الأحداث بعد ذلك: رئيس وزراء وحكومة تتمتع بجميع الصلاحيات لإدارة المرحلة الانتقالية، انتخابات برلمانية ثم رئاسية مبكرة وكذلك - وهو الأهم - لجنة للمصالحة الوطنية".
وفى حوار للبرادعى مع مجلة "دير شبيجل" الألمانية تم نشره بعد توليه منصب نائب الرئيس بأسبوع تقريباً، قال: إن ما حدث فى مصر بدءاً من مظاهرات 30 يونيو ليس انقلاباً عسكرياً، وإنه بدون عزل محمد مرسى فإن مصر كادت تتحول إلى دول فاشية، وقال نصاً: "ما حدث فى 30 يونيو لم يكن انقلاباً. هناك أكثر من 20 مليون مصرى خرجوا للشوارع بسبب الوضع الذى لم يكن مقبولا؛ فبدون عزل مرسى من منصبه كنا فى طريقنا لنصبح دولة فاشية، أو كانت ستنشب حرب أهلية، لقد كان قرارا مؤلما، وكان خارج الإطار القانونى، ولكن لم يكن لدينا خيار آخر".
هو شارك فى اجتماع 3 يوليو، ويدرك جيداً حقيقة ما يحدث فى الشارع، وأيضاً تحركات الجماعة الإرهابيىة لأخونة الدولة، لكنه يأتى اليوم لينفى ما حدث، وكأن التاريخ يكتبه البرادعى وليس موثقاً بالصوت والصورة.
كل ذلك يؤكد أننا أمام شخص يحاول تزييف الواقع حتى يحمى علاقته مع الجماعة الإرهابية، التى يحاول منذ فترة التقرب منها، ربما بطلب من العواصم الغربية التى تحرك البرادعى وتملى عليه ما يقوله ومتى يخرج للرأى العام ببيان مثل بيانه الأخير، الذى لا يمكن وصفه إلا ببيان الأكاذيب التاريخية التى تضاف إلى جملة أكاذيب البرادعى.
هو يقول فى بيانه إنه تقدم باستقالته لأسباب أخلاقية، وأنه "بدلا من احترام حقى فى الاختلاف فى أمر غير قابل للتفاوض بالنسبة لى ولضميرى، ازدادت حدة الهجوم الشرس علىّ من قبل آلة إعلامية تقوم على الإفك وتغييب العقول، وهو الهجوم الذى بدأ منذ أواخر عام 2009 عندما طالبت بضرورة التغيير السياسى"، وهو قلب للحقائق وتغيب للواقع الذى كان البرادعى أحد المشاركين فيه وقتها، فالقضية لم تكن متعلقة بالأخلاق ولا بما يرتاح له ضميره، لكنها كانت مرتبطة باحترام السيادة والقرار المصرى.
نعم السيادة المصرية التى لا يريدها البرادعى، فهو تواجد فى القصر الرئاسى لشهر لكى يكون عين الغرب على مصر الجديدة، لكنه حينما رأى أن الجميع فضحه وكشفه حاول الخروج من المأزق بالاستقالة الشهيرة التى أعلنها، وكأنه يهدف من خلالها تفكيك ثورة 30 يونيو، وضربها، وبالتالى السماح للإخوان بالعودة مرة أخرى إلى الساحة السياسية سيراً على دماء شهداء مصر من القوات المسلحة والشرطة ممن لا يعترف بهم البرادعى، لأنهم خارج حساباته.