فى عيد استشهادها، يتزاحم الآلاف حول قبرها، يطلبون نورًا وبركة وشفاعة، يكتبون لها الرسائل، ويتضرعون بالزغاريد والبكاء، يرتلون المديح، ويلبون وعد النذور.
القديسة دميانة عاشت بتولًا مع أربعين عذراء فى ديرها بالبرارى، تركت قصر والدها الوالى مرقص وصولجانه، أخلصت لرسالة المسيح ومحبة الله، تصلى قيامًا وقعودًا، تتفكر فى دنيا زائلة وتستعد لآخرة قريبة، تبحث عن خلاصها من العالم، فتموت شهيدة بيد رسول الملك "دقلديانوس" الذى قتل فى عهده آلاف الشهداء المسيحيين بعدما رفضوا العودة إلى الوثنية فى مثل هذا اليوم بالقرن الثالث الميلادى، وبعد كل هذا العمر يصر الأقباط على تحية شهدائهم وتذكرهم فى أعيادهم، فتقام لهم الليالى، وتذبح تحت أقدامهم النذور، وتوهب لهم العطايا، وتطلب منهم البركة.
فى دير القديسة دميانة بالبرارى، الذى عاشت فيه رهبنتها، قضى "انفراد" أمس، ليلة استشهادها التى بدأت بصلاة عشية رأسها الأنبا بيشوى أسقف ورئيس الدير، واختتمت بتسبحة منتصف الليل ثم قداس فى الصباح الجديد.
يرأس الأنبا بيشوى صلوات العشية يشاركه فيها الأنبا كاراس أسقف المحلة الكبرى، يحوطهما فريق من الشمامسة والكهنة الذين جاءوا للمشاركة فى تلك الذكرى العطرة، تبدأ الصلاة برفع البخور وتنتهى بالعظة التى يخصصها الأنبا بيشوى للقديسة دميانة، فيقول إن عيد استشهاد القديسة دميانة يأتى دائمًا بعد عيد الغطاس وهو ذكرى تعميد المسيح بنهر الأردن، والمعمودية فى الفكر المسيحى هى الخلاص من الخطيئة، ويسأل هل المسيح يحتاج للمعمودية؟، ويجيب لا يحتاجها، ولكنه كان يؤسس سر المعمودية أحد أسرار الكنيسة السبعة، وحين دهن جسده بزيت الميرون كان يؤسس لسر الميرون، وحين تناول ليلة آلامه وصلبه كان يؤسس لسر التناول والإفخارستيا.
بعدما ينتهى من عظته، تتقدم سيدة لتقف إلى جوار الأنبا بيشوى، وتروى قصتها مع القديسة دميانة التى ظهرت لها فى الحلم، ثم تخلع قرطها الذهبى وتتبرع به نذرًا للدير، وتزغرد باقى النساء، وهن يرددن مديح القديسة "فى يوم 13 من طوبة بنعيد دى ذكرى فى قلوبنا دايما بتتجدد ههلى ووياكى الأربعين عذراء باركينا يا ستى يا عفيفة يا طاهرة".
ينهى الأنبا بيشوى عظته، يلتف شعب الكنيسة حوله من كل اتجاه، يحاصرون خطوات المطران والشمامسة يطلبون البركة من يديه، يلمسون الأرض تحت قدميه، وفى الخلفية تعود ألحان وتراتيل القديسة دميانة لترتفع مرة أخرى " ياست دميانة يا اسم بينور.. والكون كده بسيرتك يا ستى يتعطر، ياللى قاومتى الشر والكفر والإلحاد، رافعة شعار الطهر والرغبة فى الأمجاد.
يخرج الأنبا بيشوى بزفة الشمامسة فى يده المبخرة، وخلفه الأنبا كاراس، يمشى من الكنيسة حتى يصل لقبر القديسة دميانة، يفتح له الشماس باب القبر، يدخل على أصوات الإنجيل والصلوات ترتفع حوله من الأرض إلى السماء، تزغرد النساء اللاتى تزاحمن على يمين قبر القديسة، ويصيح الرجال الذين يقفون على اليسار، ورجال آخرون يحاولون اللحاق بالمطران والكهنة والإكليروس إلى داخل القبر القديسة دميانة الذى يقف منتصبًا فى وسط الدير محاطًا بالخشب المفرغ، إلى جواره كنيسة تسمى كنيسة القبر.
فى كنيسة قبر القديسة دميانة عمودان من الرخام وأيقونة كبيرة للقديسة دميانة، أسفلهما خزينة تضم رفات الشهيدة وجزء من خشبة الصليب التى شهدت صلب المسيح، حيث دفنت أسفل الكنيسة مع الأربعين عذراء ووجدت رفات لهم فى عصر الإمبراطورة هيلانة، ثم جاء طوفان اكتسح الدير وبقى منه عمودان أعاد الأنبا بيشوى نصبهما فى عهده، تحوطهما الشموع من كل اتجاه يطلب الناس حبًا ونورا، منهم من يطلب طفلًا ومنهم من يرجو شفاعة القديسة فتشفى له مريضًا، ولا يرد الله لأجلها أحدًا. حول قبر القديسة، أيقونات أثرية، وأخرى حديثة، وزجاج معشق رسمته أيادى الراهبات بالألوان، ترى أيقونة للقديس أنطونيوس أبو الرهبنة، جوارها صورة للقديسة دميانة والأربعين عذراء مرسومة على الحائط.
ويغلق باب القبر بعد دخول الأنبا بيشوى والكهنة ومن تسلل منهم من شعب الكنيسة، وفوق القبر منضدة تحمل عطرًا وموادًا كيميائية وطبقا حديديا فارغا، ينتظر أصابع المطران ليصنع منه حنوط البركة، ويبدأ طقس "تطييب رفات القديسين" وهو أحد الطقوس المعروفة فى الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، حيث تطيب أجساد القديسين فى ذكراهم لنيل البركة والتذكير بالقدوة والعطاء.
فى الطبق الحديدى، يصنع الحنوط، يسكب زيت من العطر، وزيت الناردين المعطر وهو أحد الزيوت المقدسة لدى المسيحيين، حيث سكبته امرأة على وجه المسيح وفرح بذلك، ويوضع المزيج مع مواد كيميائية عطرة لتصنع منها ما يشبه العجينة تتلى فوقها الصلوات والتراتيل، ويدهن بها قبر القديسة، ويردد الشعب فى الخلفية "باركينا يا ستى يا عفيفة يا طاهرة واتشفعى دايما من أجل أحبابك، يا حرة طالبينك واقفين على بابك".
يخرج الأنبا بيشوى من خزينة صغيرة أسفل القبر، رفات القديسة دميانة، عظمة صغيرة من كعبها الأيسر، يصلى فوقها ويطيبها بالعطر، ومعها أيضًا وفى صندوق خشبى جزء من خشبة الصليب التى صلب المسيح فوقها، تنال نصيبها من العطر أيضًا، ثم يوزع المطران على الكهنة وشعب الكنيسة أجزاء مما صنعه من حنوط مبارك، يدهنون به حواف القبر، ويتقافز الناس من الخارج يلقون بالمناديل، والإيشاربات والشيلان الصوفية لتلتصق بالحنوط فتنال البركة، يقفز الجميع إلى داخل القبر أو يرمى متعلقاته كمن يقفز فى بركة سباحة، ويساعد من فى الداخل طالبى البركة بالخارج، لتتبارك مناديلهم برفات القديسة.
حول القبر، آلاف المحبين، مكرسات تركن الدنيا ليخدمن فى دور أيتام تابعة للكنيسة، فاصطحبن بناتهن بالتبنى لينلن بركة القديسة دميانة، وعجائز يطلبن منها الشفاء والشفاعة، وفتيات صغيرات يكتبن لها الرسائل ويلقين بالورق حول القبر علها تقرأ وترضى، وأمهات يتمنين الزواج لبناتهن وينادين على القديسة التى فى يدها الشفاعة والحل والعقد، ومرضى يأتون لها أملًا فى الشفاء، زحام كبير من البشر وزحام أكبر للآمال والأمنيات.
بعدها بدقائق، يخرج الأنبا بيشوى محاطًا بالكهنة والشمامسة والكشافة مرة أخرى، ويصعد إلى مقره ليباشر عمله ويتابع راهبات الدير اللاتى لم ينزلن من قلاليهن طوال الاحتفال واكتفين بالنظر إلى طقس تطييب الرفات من شباك خلفى يطل على القبر.
راهبات دير القديسة دميانة جئن ليعدن الحياة الرهبانية فيه، اقتداء بسيرة القديسة والأربعين عذراء معها، حيث كانت أول راهبة فى تاريخ المسيحية قبل أن يعرف العالم الرهبنة بمعناها الحالى.
تنتهى ليلة القديسة دميانة، بتسبحة تبدأ فى الواحدة منتصف الليل يقودها كهنة الدير، وتمتد حتى الثالثة صباحًا، ثم يستيقظ الراهبات فى السادسة على موعد صلاة القداس الذى يرأسه الأنبا بيشوى مرة أخرى.
الموضوعات المتعلقة..
- الاحتفال بذكرى استشهاد القديسة دميانة بديرها فى الدقهلية.. اليوم