يرصد مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة فى أبوظبى التطورات فى المشهد الاجتماعي، حيث تصاعدت مؤشرات التوتر الاجتماعي في الجزائر خلال الأيام الأولى من عام 2017، إذ شهدت عدة مدن في ولايات بجاية والبويرة وبومرداس وتيزي وزو احتجاجات واسعة النطاق تخللتها أعمال حرق وتخريب للمرافق العامة، وانتشرت ظاهرة "الملثمين" في الشوارع، على نحو يعكس تحديًا لسلطة الدولة، وهو ما تزامن مع ذكرى اندلاع الحراك الثوري الذي أطاح بنظم سياسية قائمة في بعض الدول العربية، لا سيما في ظل وجود مشكلات اقتصادية وفوارق اجتماعية وسلطوية سياسية متقاربة بين الجزائر وتلك الدول، لكنها لم تتحول إلى ثورة أو انتفاضة شعبية لاعتبارات تتعلق بالاعتياد على مواجهة تكرارية حدوث الانتفاضات الشعبية، وضعف صمود القوى الشبابية الجديدة، وإرث ما يسمى بـ"العشرية السوداء"، وغياب المصداقية لدى الأحزاب الإسلامية، ودور المؤسسة العسكرية المواجه للفوضى الداخلية، و"المتاهة الانتقالية" لدول الثورات العربية، والتخوف من عدوى الصراعات الداخلية العربية المسلحة. وبعبارة أخرى، يمكن القول إن التطورات الثورية التي اجتاحت المنطقة العربية خلال الأعوام الست الماضية لم تطل الجزائر بشكل ثوري وإن اقتصرت على تحرك احتجاجي محدود، على الرغم من أن المناخ الداخلي مهيأ لذلك، لا سيما أن الذاكرة الجمعية الجزائرية خبرت ذلك الصراع الداخلي على مدى عدة سنوات، حيث كانت الصراعات الداخلية في الجزائر أكثر حدة من حيث تعدد أطرافها ومعدلات تكرارها وأعداد ضحاياها وانسياب تأثيراتها، لدرجة أن هناك بعض الباحثين يطلق عليها "الحرب الجزائرية الثانية"، بعد الحرب الجزائرية الأولى للاستقلال عن الاستعمار الفرنسي، وهو ما دعا بعض الكتابات إلى الحديث عن "الاستثناء الجزائري" في ظل الحراك الثوري العربي.
التقدم من الخلف:
رغم تشابه المقدمات بين الجزائر ودول الثورات العربية، اختلفت النتائج، أى أن هناك "وضعية ثورية" لم تؤد إلى "نتيجة ثورية" في الجزائر. فبعد مرور ما يقرب من ثلاثة عقود على اندلاع الاحتجاجات في الجزائر، فإنها لم تصل إلى ذروة احتدام الصراع والذي يقود بدوره إلى إسقاط النظام، على نحو ما شهدته مصر وتونس وليبيا واليمن، على الرغم من أنها تمثل نموذجًا لنظرية "التقدم من الخلف" التي تشير إلى أنه ما تُحل أزمة حتى تبرز أزمة أخرى تعيد البلاد إلى المربع الأول، الأمر الذي يثير تساؤلا محددًا يتعلق بطبيعة النظام السياسي الجزائري الذي استطاع إعادة إنتاج قواه التقليدية عقب كل حركة احتجاجية، حتى صارت "الحالة الاحتجاجية الجزائرية" عصية على إسقاط نظام الحكم.
وفي هذا السياق، قال رئيس الوزراء الجزائري عبدالمالك سلال، على هامش حفل تكريم الفنانين بقصر الثقافة في العاصمة الجزائر في 6 يناير 2017 إن "بلاده لا تعرف الربيع العربي ولا هو يعرفها، وإن قوة الجزائر في استقرارها وفي شعبها القادر على التصدي لأى محاولات خارجية". وأضاف: "كانت هناك نداءات مجهولة من بعض الأطراف مكلفة بمهمة لزعزعة استقرار الجزائر، وهذه حقيقة. ليست أعمالا خطيرة، الأمر يتعلق بأقليات في بعض البلديات عبر الوطن بالأخص في ولاية بجاية".
كما هدد وزير الداخلية نور الدين بدوي، على هامش تصريحات صحفية خلال تفقده مشروعات مرتبطة ببرنامج الولاية الرابعة للرئيس بوتفليقة (2014-2019) في مدينة قلمة في 4 يناير 2017، بـ"الضرب بيد من حديد ضد من يحاول زعزعة استقرار الدولة"، واتهم أطرافًا، من دون تسميتها، بـ"السعي لزعزعة استقرار وأمن البلاد"، لا سيما بعد إطلاق دعوات الإضراب على مواقع التواصل الاجتماعي وتوقيف مجالات النشاط في ولايات القبائل التي تعرف بأنها "معقل المعارضة ضد النظام القائم"، وتخريب ممتلكات حكومية مثل حافلات النقل العمومي ومصالح الضرائب ومراكز البريد، وبعض الشركات والإدارات، واستهداف مقار للشرطة ومديريات للتربية، واقتحام محال تجارية، وإغلاق طرق فرعية.
ويعود السبب الرئيسي لتلك الاحتجاجات في ولايات الشرق إلى الإجراءات الاقتصادية والاجتماعية المؤلمة التي اتخذتها الحكومة الجزائرية لمواجهة انخفاض أسعار النفط، وهو ما عكسه قانون الموازنة لعام 2017، الذي يتضمن رسومًا على العقارات لأغراض تجارية وزيادة في أسعار مواد ذات استهلاك واسع مثل البنزين والكهرباء والمواد الغذائية الرئيسية، وتجميد التوظيف في القطاع العام وعدم زيادة الأجور خلال الفترة من عام 2017 وحتى عام 2019. وقد رفعت لافتات مكتوب عليها "كلنا ضد قانون الموازنة 2017" و"لا لسياسة التقشف الحكومية"، لا سيما أن الجزائر تعاني من أزمة اقتصادية منذ عامين بسبب تراجع العائدات النفطية.
فقد تراجعت أسعار النفط من 110 دولار في عام 2013 إلى ما بين 45 و50 دولار في عام 2017، وتشير بعض التقديرات إلى أن الحكومة الجزائرية تمكنت من الحصول على 800 مليار دولار من الصادرات النفطية، إلا أنها لم تتمكن من تحسين مستوى معيشة الجزائريين. ورغم ذلك، وحرصًا على استقرار البلاد ندد الاتحاد العام للتجار والحرفيين الجزائريين بالتهديدات التي تعرض لها بعض التجار من قبل مجهولين لإجبارهم على إغلاق محالهم، والتهديد بحرقها إن ظلت مفتوحة. كما أطلقت صفحات جزائرية عدة على مواقع التواصل الاجتماعي حملة تحت شعار "الجزائر فوق الاعتبار" و"لا للعنف" لرفع العلم الجزائري على شرفات المباني والمؤسسات والشركات والشوارع في 7 يناير الجاري، بهدف توجيه رسالة للعالم بأن الجزائريين حريصون على وطنهم ويرفضون دخوله في أتون الفتنة والعنف.
إن هناك بعض العوامل التي تفسر نجاح الجزائر في النجاة من موجة الحراك الثوري العربي، رغم توافر البيئة الداخلية المُحفِّزة، على النحو التالي:
الربيع الأمازيغي:
1- الاعتياد على مواجهة تكرارية حدوث الانتفاضات الشعبية: يمكن القول إن الجزائر سبقت بقية الدول العربية بانتفاضة الربيع القبائلي ذات المطلب الثقافي في عام 1980، التي قادها شباب الجامعات المنضوي تحت الحركة الثقافية البربرية، كما شهدت البلاد أيضًا انتفاضة سكان قسنطينة في عام 1986، ثم انتفاضة شباب أكتوبر في عام 1988، ثم انتفاضة 2001 التي راح ضحيتها أكثر من 70 قتيلا، فضلا عن حركة 5 يناير التي تزامنت مع الحراك الثوري في المنطقة في عام 2011.
وقد تكررت الاحتجاجات ذات الأبعاد المناطقية خلال الفترة من عام 2012 وحتى عام 2016 في الجزائر، وهو ما يعني أن احتجاجات يناير 2017 لم تكن أول الاحتجاجات الواسعة التي تشهدها بعض المناطق في البلاد، بل عرفت الجزائر انتفاضات شعبية قد تندلع فجأة ولأسباب عديدة، وسبقت الثورات التي شهدتها دول أوروبا الشرقية منذ نهاية الثمانينيات من القرن الماضي، على نحو لا يعطي زخمًا لانتفاضات داخلية جزائرية.
2- عدم وضوح هوية الأطراف المحتجة: تشير بعض الكتابات إلى أن المشكلة الأساسية في تلك الاحتجاجات التي شهدتها الجزائر خلال السنوات الماضية تتمثل في عدم معرفة هوية الأطراف الداعية لها، فهى مجهولة المصدر وتختفي وراء شبكات التواصل الاجتماعي، فضلا أن مطالب المحتجين غير واضحة المعالم. كما أنها ركزت على المطالب الاجتماعية وتجاهلت الأبعاد السياسية، وخاصة منذ العهدة الثانية للرئيس بوتفليقة.
مواجهة الإفقار:
3-الاستجابة السريعة من الحكومة الجزائرية: ففي أعقاب اندلاع الاحتجاجات الاجتماعية يتم اتخاذ خطوات محددة لمواجهتها، على نحو ما تم التعامل معه في 5 يناير 2011، بإعلان الحكومة تخفيض أسعار المواد الغذائية وتحديدًا الزيت والسكر، حفاظًا على القدرة الشرائية للمواطنين، وهو ما ساعد على إدارة واستيعاب الغضب الشعبي في الوقت الذي برزت فيه أعمال السرقة والسلب بواسطة العصابات الإجرامية.
ومع ارتفاع الأسعار الاستهلاكية والوقود (مثل الزيت والسكر والقهوة والحليب والبنزين والكهرباء والغاز) مؤخرًا بأكثر من 40 في المئة بما يطاول الفئات الشعبية الأقل قدرة شرائية، يفترض اتخاذ الحكومة سياسات للدعم الاجتماعي، وهو ما بدا في تأكيد وزير الداخلية الجزائري خلال زيارته منطقة قالمة على "التزام الحكومة بسياسة الدعم الاجتماعي، وأن الدولة تبقى الضامن الوحيد للقدرة الشرائية للمواطن، رغم الظرف الاقتصادي الاستثنائي". وقد خصصت الحكومة بالفعل أكثر من 10 مليارات دولار في ميزانية عام 2017 لتثبيت الدعم المالي الموجه للمواطن.
معارضة مشتتة:
4-ضعف صمود القوى المعارضة الشبابية الجديدة: وهى القوى التي خرجت في احتجاجات داخلية، والتي أصبحت من الناحية التنظيمية خارج أطر الأحزاب السياسية والمؤسسات المدنية، بعد أن فقدت الأخيرة القدرة على استقطاب هذه الشريحة المجتمعية المتطلعة للحرية السياسية والعدالة الاجتماعية. وحتى الأحزاب ذات التوجهات الإسلامية التي اتسمت بقدرتها على التجنيد السياسي لقطاعات عريضة من المجتمع الجزائري في عقد التسعينيات دخلت هى الأخرى في مأزق داخلي، وتحول البعض منها إلى أحزاب صغيرة وكيانات مجهرية، نتيجة ضعف خطابها وعدم واقعية أفكارها، فضلا عن صراعاتها الداخلية.
كما أن هذه القوى الشبابية الجديدة غير منظمة ومتعددة المطالب، حيث تضم تركيبات فئوية مختلفة مثل الشباب العاطل عن العمل، وطلاب الجامعات، وسكان الأحياء الشعبية الفقيرة. فضلا عن أن هذه القوى الشبابية لا تملك الاستمرارية الاحتجاجية، كما تبدو أحيانًا أحادية المطلب (البطالة، والسكن، والأجور). لكن هذه الحركات لم تصل إلى درجة العاصفة التي يمكن أن تؤدى إلى تغيير جذري على مستوى هيكل النظام الجزائري. وبعبارة أخرى، فإن هناك عدم قدرة من جانب القيادات المعارضة على منافسة نظام الحكم في الجزائر.
العشرية الحمراء:
5- الإرث الثقيل والتجربة المريرة للجزائر مع العشرية السوداء: وذلك خلال فترة التسعينيات وما أعقبها من تداعيات سلبية وحرب أهلية راح ضحيتها نحو 200 ألف جزائري خلال الفترة من عام 1992 وحتى عام 2002، بخلاف المفقودين والنازحين. ومن هنا، ساد تخوف لدى المواطن من العودة إلى حالة العنف والعنف المضاد التي تصدرت المشهد الجزائري في عقد التسعينيات من القرن الماضي، والتي استمرت لعقدين من الزمن، ولا تزال آثارها قائمة على مستوى الروح البشرية وتدمير إمكانيات البلاد المادية. ووفق تعبير البعض، فإن أحد الأسباب الرئيسية لحصانة الجزائر من الثورة الشعبية هو "الدمي–قراطية" وليس تماسك الديمقراطية.
وهنا، فإن أغلب قطاعات المجتمع الجزائري تعيش مرحلة نقاهة وعليها أن تستريح وفقًا لاتجاهات عديدة. فقد خرجت دعوات مناهضة لما أطلق عليه "ثورة 17 سبتمبر" في عام 2011 على مواقع التواصل الاجتماعي تتخذ موقفًا مضادًا، وهو ما جسدته شعارات مختلفة من قبيل "ضد ثورة 17 سبتمبر 2011 ومع بوتفليقة واستقرار الجزائر" و"جميعًا ضد ثورة 17 سبتمبر المزعومة"، لا سيما بعد تدخل الجبهة الإسلامية للإنقاذ في مسار هذه الاحتجاجات الأمر الذي دفع قطاعات عريضة من الرأى العام الجزائري إلى عدم قبول مسارعة الآخرين إلى قطف ثمار غضبهم.
بديل متعثر:
6- غياب المصداقية لدى الأحزاب الإسلامية: والتي كان يتصور أنها الخيار البديل لأحزاب الحكومة، كما أن طموحها يتجاوز بكثير إمكانياتها. إلى جانب أن حركة "حمس" التي تعبر عن تيار الإخوان المسلمين لا تملك مصداقية تسمح لها باكتساح الانتخابات، حيث أنها كانت عضوًا في التحالف الرئاسي منذ عدة سنوات، وتشارك في تحمل المسئوليات الحكومية التي كانت شريكًا فيها.
وثمة تفسير آخر لضعف قدرة حركة "حمس" على اللحاق بقطار ربيع الإسلاميين العرب -الذي تعثر منذ عام 2013- وهو تفتت الحالة الإسلامية السياسية في الجزائر. وتبدو المعضلة التي تواجه المعارضة الجزائرية أن أى تحرك بالشارع سيكتسب الطابع الإسلامي، خلافًا لبقية الثورات العربية التي اتخذت طابعًا شعبيًا عامًا، وهو ما سيجعل مواجهة الإسلاميين أيسر كثيرًا على أجهزة الأمن وقوات الجيش.
7- الدور الرئيسي للمؤسسة العسكرية: والتي تحولت في حالتى مصر وتونس من حماية النظام إلى حراسة الثورات الشعبية، لكن ذلك لم يحدث في الجزائر رغم تكرار الانتفاضات الشعبية، بحكم التداخل الشديد بين مؤسستى الرئاسة والجيش، بحيث تضامنا معًا في مواجهة أية تهديدات من الخارج أو الداخل، وهو ما برز عند تنحية الرئيس السابق اليمين زروال وتولي عبدالعزيز بوتفليقة الحكم.
المصيدة الانتقالية:
8- المتاهة الانتقالية التي سادت التحولات الداخلية في مرحلة ما بعد الثورات العربية: إذ لا زالت المرحلة الوسيطة بين انهيار النظم القديمة وبناء النظم الجديدة تتسم بالتعقيد الشديد في بعض الدول، بحيث تشبه المتاهة الناتجة عن الدخول في مسارات متنوعة واستنزاف في مراحل مختلفة، لدرجة أن هناك اتجاهًا سائدًا في الكتابات يشير إلى "مراحل انتقالية متعددة" وليس "مرحلة انتقالية واحدة"، أو ما يطلق عليه في أدبيات السياسة المقارنة "الموجات المتتالية للمراحل الانتقالية في أعقاب الثورات الشعبية".
فقد غاب التوافق بين القوى السياسية والتيارات الفكرية والحركات الثورية والأحزاب السياسية في دول الثورات العربية في مراحل الانتقال من الثورة إلى الدولة فيما يتعلق بحل المعضلة الأمنية ومعالجة الأزمة الاقتصادية وبناء المؤسسات السياسية والتوافق حول المسألة الدستورية وإنفاذ العدالة الانتقالية وتحقيق المصالحة الوطنية بما يؤدي لاستراتيجيات مثلى لبناء جمهوريات أفضل.
الاستقرار الهش:
ويمثل الهاجس الأمني أحد المخاوف الرئيسية للجزائريين من تحول الاحتجاجات إلى ثورة شعبية في ظل تصريحات رسمية عكستها أحاديث وزير الداخلية مفادها أن الإرهاب لا يزال التهديد الأول في عام 2017 في خضم ما تشهده دول الجوار، لا سيما ليبيا وتونس. لذا كان يفترض استمرار الإضراب السلمي في الجزائر خلال الفترة من 2 وحتى 7 يناير الجاري، لكن اندلاع أعمال العنف غير المنضبط أدى إلى التراجع بعدما شعرت قطاعات من الرأي العام الجزائري بخطر تحول الإضراب عن المسار السلمي، وتعالت الأصوات المنادية بإعطاء الأولوية للأمن القومي.
خلاصة القول إنه على الرغم من اندلاع إضرابات واحتجاجات مستمرة في الجزائر منذ بضعة أعوام، إلا أنه لم تحدث ثورة مشابهة كالتي شهدتها دول عربية عديدة، على نحو يعكس "خصوصية الحالة الجزائرية" المرتبطة بمتغيرات وسيطة تتمثل في نزاعات داخلية مسلحة ممتدة وغياب مصداقية القوى المعارضة البديلة سواء الجديدة (الحركات الشبابية) أو القديمة (الجماعات الإسلامية) وإرث "العشرية السوداء" في التسعينيات وانحياز المؤسسة العسكرية لنظام الحكم والآثار السلبية المضاعفة على الاقتصاد الوطني والتطورات المتعثرة في دول الإقليم.