خمسة أعوام مرت على النقطة الفاصلة فى تاريخ ثورة الخامس والعشرين من يناير، خمسة أعوام يأتى معها اليوم ذكرى الأربعاء الدامى أو ما يعرف إعلاميا باسم موقعة الجمل فى الثانى من فبراير لعام 2011، والتى مازالت أحداثها الحقيقية سرا لم يعرفه أو يكتشفه أحد.
فى ذلك اليوم وقعت أحداث دامية راح ضحيتها عشرات القتلى والمصابين، بعدما قرر فريق من مؤيدى الرئيس الأسبق حسنى مبارك اقتحام ميدان التحرير والاشتباك مع المعتصمين لإرغامهم على الرحيل.
وفى يوم الأربعاء الدامى امتطى أنصار الرئيس مبارك من منطقة نزلة السمان السياحية الجمال والأحصنة، وتجمعوا فى ميدان مصطفى محمود بجامعة الدول العربية، وانضم إليهم بقية مؤيديه من مناطق أخرى، وشكلوا تكتلات توجهت لميدان التحرير بهدف منع المناهضين للنظام الحاكم من التوافد إلى الميدان، ومحاصرة المتواجدين بداخله، وإجبارهم على إخلائه، وفى مشهد عنف غير مسبوق صالت وجالت الخيول والجمال تحمل على أعناقها رجالا محملين بالعصى وقطع الحديد، بشكل عشوائى فى جميع أنحاء الميدان، مثيرة حالة من الرعب والفزع فى صفوف الثوار، وأسفرت أحداث الكر والفر تلك عن وقوع 14 قتيلا و1500 مصاب.
مازال الجناة فى هذه الجريمة مجهولون، تقارير كتبت، وشهادات وثقت، وأدلة قُدمت أمام جهات التحقيق ولكن عجزت جميعها عن تقديم الفاعل الحقيقى للعدالة، وحُفظت القضية وأصبحت محلك سر.
«انفراد» تعيد قراءة الملف مرة أخرى، وتسترجع أحداث وتفاصيل هذا اليوم ممن شاركوا فيه، وتستمع لشهادة الشخصيات التى دونت أسماؤها فى ملف القضية.
المعركة.. قضية مكتملة الأركان فازت بالبراءة
نجح المتظاهرون فى الدفاع عن الميدان، وإنجاح تحالفهم وسحب بساط التأييد والتعاطف، من أسفل أقدام رأس النظام البائد، وتحولت الدفة لصالح الثوار الذين خرجوا عقب تلك الواقعة من كل حدب وصوب ولا يعنيهم سوى رحيل مبارك وإسقاط نظامه، وبعد تحقيق مطلبهم هذا، كان ملف موقعة الجمل على رأس القضايا المطلوب النظر والبت فيها وبالفعل فى 11 سبتمبر 2011، بدأت أولى جلسات محاكمة المتهمين فى تلك الموقعة الذين كان عددهم ما يقرب من 25 متهما أمام محكمة جنايات القاهرة، وجهت جهات التحقيق للمتهمين اتهامات مختلفة من بينها قتل متظاهرين، والشروع فى قتل آخرين، والاعتداء عليهم بقصد إرهابهم بواسطة استئجار مجموعة من البلطجية والمسجلين خطرًا للاعتداء على المتظاهرين السلميين بميدان التحرير، وتحريضهم على فضِّ التظاهرات المناوئة لمبارك بالقوة والعنف.
وذلك بناء على تقرير لجنة تقصى الحقائق الصادر فى إبريل 2011 والتى كان يترأسها المستشار عادل قورة، وجاء فى تقريرها أنه فى منتصف الأربعاء 2 فبراير بدأت أعداد غفيرة من مؤيدى الرئيس الأسبق فى اقتحام الميدان، وألقوا الحجارة وقطع الرخام وزجاجات حارقة «المولوتوف» على المتظاهرين، وفى ذات الوقت أطلقت الشرطة الأعيرة النارية والمطاطية والخرطوش والقنابل المسيلة للدموع على المتظاهرين، وقام بعض القناصة بإطلاق الأعيرة النارية من أعلى الأبنية المطلة على الميدان، واخترق أنصار الرئيس الحواجز الحديدية التى وضعها الجيش لتأمين المتظاهرين، وانهالوا ضربا فى جموع المتظاهرين، إلا إنهم تمكنوا من التحفظ على بعض راكبى الجمال ومن المندسين بينهم من مؤيدى النظام السابق، وتبين من الاطلاع على هوياتهم الشخصية أنهم من رجال الشرطة بالزى المدنى، ومن المنتمين للحزب الوطنى، وتم تسليمهم للقوات المسلحة لاتخاذ الإجراءات القانونية حيالهم.
وبحسب التقرير فإن شهادة شهود العيان أفادت بأن عددا من رموز الحزب الوطنى وأعضاء مجلسى الشعب والشورى المنتمين للحزب وبعض رجال الشرطة، خاصة من المباحث الجنائية وبعض رجال الإدارة المحلية قد دبروا للمظاهرات المؤيدة للرئيس السابق فى 2/2/2011 واتجهت صوب ميدان التحرير، وهى مزودة بالعصى والحجارة والمواد المشتعلة والأسلحة البيضاء.
وعلى الرغم من كل هذا إلا إنه فى يوم 10 أكتوبر 2012، قضت محكمة جنايات القاهرة، ببراءة جميع المتهمين فى القضية، قبل أن تغلق محكمة النقض، فى وقت لاحق، ملف القضية نهائيا برفض الطعن المقدم من النيابة على أحكام البراءة، لتبقى موقعة الجمل بلا جانٍ بعد مرور خمسة أعوام عليها.
وصمة «الجمل» لا تزال تطارد أهالى «النزلة»
تجولت «انفراد» فى منطقة نزلة السمان التى اتهم أبناؤها بلعب دور البطولة فى موقعة الجمل، والتقت بالأهالى الذين تجمعهم جميعا مهنة الخيالة التى يتوارثونها جيلا بعد آخر، والتى اضطروا لتركها واستبدالها بمهن أخرى، ومنها العمل على التكاتك وسيارات الأجرة بعد تدهور السياحة، وتقلص أعداد المترددين على منطقة الأهرامات بشكل كبير.
وعلى الرغم من مرور خمس سنوات، فإن النظرة لهم لم تختلف، فهناك مازال يعتقد بأنهم «بلطجية» استئجروا من أجل الاعتداء على المتواجدين فى ميدان التحرير، وهو أمر يؤذيهم نفسيا، حسبما تحدثوا لـ«انفراد»، ويؤثر على أولادهم بين زملائهم الذين يطلقون عليهم لقب «دوول أولاد بلطجية الجمل». وأكد أحد الأهالى أن بعض سكان المنطقة حاولوا تغيير عناوينهم المدونة فى بطاقة الرقم القومى الخاصة به لتجنب المضايقات، التى يجدونها عندما يُعرف أنهم من أبناء نزلة السمان.
«إحنا مش عارفين نشتغل، وفيه مننا اللى باع الخيول واشترى بدالها توك توك علشان نعرف نوكل عيالنا».. بهذه الكلمات عبر «أ.ح» عن ضيق أحوالهم المعيشية، وأضاف: «منذ خمسة أعوام وأحوالنا لم تعد للسابق.. ووصل بنا الحال للاضطرار لبيع الأحصنة بعدما عجزنا عن إطعامها، بعد انهيار السياحة وتناثر الشائعات التى أطلقت ضدنا حول المشاركة فى موقعة الجمل، وهو أمر لا علاقة لنا به ولا نعلم عنه شيئًا».
وروى «محمد خليل» تفاصيل ما أطلق عليه «توريطهم فى موقعة الجمل»، قائلا: «إحنا ملناش دعوة بالسياسة كل ما يشغلنا هو أكل العيش، بس المشكلة إن فيه ناس استغلت بساطة الأهالى وعدم حصولهم على قدر من التعليم فى التلاعب والزج بهم فى معركة سياسية».
وأكمل «خليل»: «أوهمنا عضوا مجلس الشعب عبدالناصر الجابرى ويوسف خطاب بضرورة الخروج فى وقفة لتأييد بقاء مبارك فى الحكم ستنظم فى منطقة المهندسين، وهو الأمر الذى وافقنا عليه بعد تأكيدهم لنا بأن المشاركة سيترتب عليها إلغاء الحكومة مشروع زاهى حواس وزير الآثار، الذى أعلن عنه فى ذلك الوقت، لإنشاء «تليفريك» وقطار لخدمة السائحين والمترددين على منطقة الأهرامات، وهو ما كان يمثل تهديدا مباشرا لعملنا كخيالة، ولذلك شاركنا، وبعد وصولنا إلى منطقة المهندسين، فوجئنا بطلب الانتقال إلى منطقة ماسبيرو للمشاركة فى وقفة أخرى لتأييد مبارك».
رجب هلال حميدة: الإخوان استغلوا الحدث لإسقاط «مبارك»
رجب هلال حميدة حامل أسرار معركة الجمل، هو النائب السابق وأحد المتهمين الأساسيين فى قضية المعركة المشهورة.
بعد خمس سنوات من الواقعة يؤكد «حميدة» فى حواره مع «انفراد» إلى أنه آن الأوان للكشف عن المتورطين فى هذه الحادثة التى وصفها بالجريمة.
أوضح البرلمانى السابق أن ما جاء فى التحقيقات وما قيل له فى السجن من قبل نائبى الحزب الوطنى عبدالناصر الجابرى ويوسف خطاب المتهمين فى الواقعة كان مفاده أن الهدف من خروج أهالى نزلة السمان رفض تعيين زاهى حواس وزيرا للآثار فى حكومة الفريق أحمد شفيق، لأنه كان يرغب فى إقامة سور يفصل بين الهرم ومنطقتهم، لكن بعدها بيومين طُلب منهما من قبل كل من دكتور شريف والى ووليد ضياء الدين أمين التنظيم فى الحزب الوطنى ضرورة حث أهالى نزلة السمان للخروج إلى ميدان مصطفى محمود، من أجل تأييد بقاء حسنى مبارك فى السلطة لمدة 6 أشهر.
وتابع حميدة حديثه: «اللواء الروينى فى شهادته أمام بالمحكمة قال جاءتنى بلاغات ليلا عن طريق الأجهزة المعنية بالقوات المسلحة بأن هناك مجموعات اعتلت أسطح البيوت المطلة على ميدان ومنهم ملتحون يحملون أسلحة تم تصويرهم من قبل طائرات الاستطلاع، لذا طالبت القيادى الإخوانى محمد البلتاجى بإنزالهم فنفى صلته بهم فى البداية، لذا أصدرت للقوات المتمركزة أمام المتحف بالتصويت ناحيتهم حماية للمتظاهرين، لكن البلتاجى صرخ فىّ، وأكد أنه سيتولى أمر إنزالهم وبالفعل فى مدة لا تزيد عن ربع ساعة نزلوا جميعا.. وكانوا أغلبيتهم من الملتحين». وأشار البرلمانى السابق إلى أنه شاهد على مواجهة حدثت فى السجن بين صفوت الشريف، أمين عام الحزب وماجد الشربينى، أمين التنظيم حول طلب الأخير يوم 13 يناير من نواب البرلمان عن منطقة الجيزة النزول فى تظاهرات مؤيدة للرئيس، وهو ما رفضه رئيس مجلس الشورى الأسبق وقال: «أنا حذرتكم من الزج بأى تظاهرة تحمل اسم الحزب فى الشارع حتى لا تحدث فتنة ولن تستطيع قوة تسيطر على الأحداث بعد انسحاب الأمن من الشارع، والقوات المسلحة تهتم بالأماكن الحيوية ولن تتدخل فى فض الاشتباكات بين مؤيد ومعارض.. تعليماتى كانت من يريد يخرج لتأييد مبارك بصفة شخصية».
وشدد البرلمانى السابق أن جماعة الإخوان استغلت تلك القضية من أجل ابتزاز كبار رجال الأعمال أمثال محمد أبو العينين، وتصفية الحسابات مع بعض السياسيين الذين وقفوا ضدهم، وكان رجب حميدة أحدهم لأنه يعلم حقيقتهم، وأشار إلى أن الإخوان أيضا استغلوا موقعة الجمل والأحداث التى تلتها ذريعة لإسقاط مبارك.
سياسيون يطالبون بإعادة فتح التحقيق فى القضية ومعاقبة الجناة مهما كانت مناصبهم
أدلى عدد من السياسيين بشهادتهم تجاه أحداث موقعة الجمل، متحدثين عن أبرز المشاهد التى مازالت عالقة فى أذهانهم بشأن هذه الحادثة الفارقة فى تاريخ ثورة الخامس والعشرين من يناير، مطالبين بإعادة فتح التحقيق فى تلك القضية مرة أخرى، للوصول إلى الجناة الحقيقيين وتوقيع العقوبة عليهم، أيا كانت مناصبهم الآن فى الدولة. قال السياسى أحمد بهاء الدين شعبان، رئيس الحزب الاشتراكى المصرى إن موقعة الجمل لن تسقط من ذاكرة التاريخ، وستظل بقعة سوداء فى تاريخنا إذا لم يتم فتح ملفاتها مرة أخرى وعقاب المسؤولين على التورط فيها، مهما كانت أوضاعهم أو درجة الحماية المتوفرة لهم، مضيفا أن استمرار هذا الجرح المتقيح دون علاج سيضاعف النزيف فى الجسد المصرى، ولن نشفى منه إلا بعد تطهيره بشكل كامل.
وتابع: أتصور أن هذا الملف الحساس على درجة عالية من الأهمية والخطورة، والسبب وراء عدم فتحه مرة أخرى هو أن عددا كبيرا من المتورطين فيه مازالوا فى صدارة المشهد السياسى والاقتصادى، وبالتالى سيصعب محاسبتهم من قبل النظام، ونحن نرى أن كل المجرمين الذين تورطوا فى قتل الشهداء وإصابة المئات من الجرحى دون أن ينالهم أى عقاب، أعيدت لهم أموالهم واعتباراتهم، وتصوروا أن الشعب قد كفر بالثورة، بل الأخطر أنهم يعودون للانتقام من الثورة.
وعن المشاهد التى مازال يتذكرها، يقول شعبان: المشاهد التى رأيناها جميعا حينما فتحت بوابات الميدان أمام جحافل الخيول، لإنهاء تواجد الثوار فيه، ولكن استطاع الشباب الثورى حماية الميدان من أنصار الثورة المضادة، وأعتقد لولا انتهاء الواقعة بهذا الشكل لكان حدث تحول فى مسار الثورة تماما.
أما الناشط السياسى محمد عواد، عضو ائتلاف شباب الثورة، يقول: كان دورنا ينحصر حول المنصة فى ميدان التحرير لتنظيم المجموعات الشبابية، وحماية بوابات الميدان والدفاع عنها، وعندما علمنا بهجوم أنصار مبارك قررنا ترك مواقعنا والذهاب لميدان عبدالمنعم رياض لمنعهم من التقدم، وأبرز المشاهد التى مازالت أتذكرها حتى الآن هى رؤيتى للمصابين والقتلى يتساقطون أمام عينى، ومن بينهم صديقى المقرب الذى اعتاد معى حماية الميدان وقتها أقسمنا أن نعيد حق الشهداء ونثأر لهم. وأضاف: ما نراه الآن هو أن عددا كبيرا من شباب الثورة مازال خلف القضبان، بينما ينعم فى الخارج المتورطين فى قتلهم ويمكن القول الآن أن رموز الثورة المضادة والحزب الوطنى عادوا لصدارة المشهد من جديد وكأنهم يكافئون على ما فعلوه.
وطالب جورج إسحاق عضو المجلس القومى لحقوق الإنسان، بإعادة فتح التحقيق مرة أخرى فى القضية قائلا: إذا أردنا الحديث عن العدالة الانتقالية فيجب إعادة فتح التحقيق فى كل الأحداث التى وقعت قبل الثورة وخلالها وبعدها.