ـ إدارة بوش تابعت مشهد القاهرة وعقدت دوائر الأمن والاستخبارات اجتماعات وأعدت التقارير
ـ الـ«CIA» وضعت تقديرات للموقف فى تقارير «سرى للغاية»
آلت معركة انتخابات 2005 الرئاسية إلى ختام، ودقت ساعة الفرز بعد سلسلة انتهاكات وتجاوزات لا يخطئها منصف.. كانت صورة مبارك الورقية المعلقة على الجدران لا تزال صامدة رغم رداءتها وما شابها من صبغة رمادية شاحبة تحول دون وضوح ألوانها وتفاصيلها، طل الرئيس عبر ملامحه البالية على من يتلقون العلم فى فصول دراسية مكدسة غابت عنها الرسالة، وتأمل بأعين زجاجية باردة وجوهًا شاحبة اعتاد أصحابها فقدان آدميتهم فى المصالح الحكومية دون أن يدرى أن الرهان على الصبر ليس دائمًا مأمون العواقب.. وأن للرضا عند المصريين مهما طال الأمد تاريخًا للصلاحية.
بصوت أجش، اخترق المستشار ممدوح مرعى الصمت الثقيل، وأعلن دون مفاجآت تمديد صلاحية بقاء «الصورة البالية» على الجدران، التى نخر الفساد قواعدها، ونصب محمد حسنى مبارك رئيسًا لولاية خامسة تمتد حتى 2010 حاصلًا على أكثر من 80% من أصوات الناخبين.. ودون مفاجآت أيضا أعلن مستشار السلطة حلول المشاغب المشبوه أيمن نور فى المركز الثانى متقدمًا على الدكتور نعمان جمعة، الذى احتل المرتبة الثالثة رغم ما يمتلكه حزب الوفد من جذور ضاربة فى تاريخ الحياة السياسية والحزبية المصرية، ورغم الحملة الدعائية الضخمة، التى كبدت خزائن بيت الأمة ملايين الجنيهات.
كان مشهد فوز مبارك ثقيلًا رغم التوقعات.. فتحت الولاية الرئاسية الخامسة أبوابًا كثيرة للتمرد الذى تسلل إلى النفوس الصابرة بعدما وصل أصحابها إلى قناعة لا شك فيها أن مبارك باق طالما ظل هناك قلب ينبض، وأن الرهان على أى فصيل سياسى لتغيير تلك المعادلات عبر الطرق والقنوات الشرعية، هو رهان خاسر لا محالة.
بدت القاهرة بتعقيدات تفاصيلها أكثر وضوحًا من الصورة البالية المعلقة على الجدار، وبدت الدولة المصرية رغم قبضة الأمن ونفوذ الحزب مكشوفة أمام المجتمع الدولى والعدو قبل الصديق أكثر من أى وقت مضى.. وفيما كانت مشاعر التمرد تتسلل إلى أوردة وشرايين المصريين، كانت مؤسسات واشنطن التنفيذية والاستخباراتية على حد سواء ترصد بدايات نهاية النظام، وفيما كان الحزب الوطنى يعقد الصفقات مع جماعة الإخوان خلف الكواليس، كانت وكالات الـ»CIA» ترفع التقارير إلى الإدارة الأمريكية بتوصيات عدة لفتح قنوات اتصال مباشرة وغير مباشرة مع الجماعة الأكثر تنظيمًا فى ذلك الحين.
توالت التقارير تلو التقارير داخل واشنطن، بينها ما هو رسمى مطروح إلى نقاش علنى، ومن ضمنها ما حمل عبارة «سرى للغاية» إلا أن غالبيتها كان يسلط الضوء على جماعة الإخوان فى محاولة مبكرة لاستشراف دورها وقياس مدى قوتها وقدرتها على الفعل والتأثير.
وفى الوقت الذى كانت تبحث فيه واشنطن عن حلفاء جدد داخل القاهرة، وتبدأ مبكرًا رحلة البحث عن «خليفة مبارك»، كان الأخير يبرم صفقة ربما هى الأخطر بين النظام والجماعة فى محاولة لاحتواء الصعود المحتمل للتيار الليبرالى، الذى مثله أيمن نور وكيانات المعارضة الجديدة التى مثلتها حركة كفاية، من خلال منح المزيد من الحرية فى الحركة والحشد لجماعة الإخوان لتحجم دور التشكيلات السياسية الأخرى من جهة، وتتجسس من جهة أخرى على التنظيمات الإسلامية الأخرى مثل الجهاد الإسلامى والجماعة الإسلامية وغيرها.
كان هامش الحرية اللافت، الذى منحه مبارك لجماعة الإخوان، فور فوزه بولاية رئاسية جديدة يكشف ملامح الكثير من الصفقة، التى عقدها النظام مع الجماعة قبل انطلاق انتخابات الرئاسة.. منحت الأجهزة الأمنية لعناصر الجماعة مساحة أكبر للحركة بالتزامن مع الإفراج عن قيادات من الصف الأول داخل الإخوان ومن بينهم الدكتور عصام العريان وآخرون.
وكشفت وثائق الـ»CIA»، التى تم رفع السرية عنها ملامح صفقة مبارك والإخوان، واستعرضت تفاصيل الاجتماع، الذى حضره من جانب الجماعة المهندس خيرت الشاطر، نائب مرشد عام الإخوان، والدكتور محمد مرسى، عضو مكتب الإرشاد فى ذلك الحين، بجانب قيادات بجهاز أمن الدولة المنحل، للاتفاق على الترتيبات الخاصة بانتخابات برلمان 2005.
وبحسب الوثيقة، عرض نظام مبارك على الجماعة السماح بالمنافسة على 40 مقعدًا، إلا أن الإخوان خالفوا الاتفاق ونافسوا على عدد أكبر من المقاعد وانتزعوا 88 مقعدًا فى مفاجأة لم تتوقعها النخب الليبرالية وأحزابها، ولم ينجح فى استيعابها معسكر اليسار والاشتراكيين.. وربما لم يتوقعها النظام نفسه، ليكشر الإخوان عن أنيابهم ويقدموا أنفسهم البديل الأقوى للحزب الوطنى، والكيان الأكثر تنظيمًا فى حياة سياسية أصابها الكثير من الركود.
كان لزلزال الإخوان فى برلمان 2005 توابع عدة أشعلت الصراع داخل الحزب الوطنى بجناحيه الحرس القديم والحرس الجديد كان شيوخ وكبار الحزب الوطنى يلقون باللوم على التيار المحسوب على مبارك الابن ورجال الأعمال المتسللين إلى عالم السياسة، فى حين كان المهندس أحمد عز، أحد أبرز رموز الحرس الجديد، يؤكد أن الأخطاء التنظيمية كانت السبب الرئيسى لانتزاع الإخوان قرابة ثلث مقاعد البرلمان.
فند المهندس الشاب أسباب الخسارة قائلًا: أن خروج أعضاء بالحزب الوطنى عن النص ومخالفتهم القرارات التنظيمية ومنافسة زملائهم هو ما فتح الباب أمام تسلل الإخوان إلى البرلمان، مؤكدًا أن متوسط عدد مرشحى الحزب ضد زملائهم فى الانتخابات بلغ 400%، متمسكًا بأن الجماعة، التى وصفها بـ«غير الشرعية» لا تمتلك قوة تأثير على الأرض.
امتدت توابع زلزال الإخوان إلى واشنطن.. عقدت دوائر الأمن والاستخبارات اجتماعات مكثفة، وبدأت غرف الكونجرس الأمريكى ولجانه تعقد جلسات الاستماع لمناقشة نقل الاتصالات مع الإخوان من الغرف المغلقة إلى العلن.
كان الإجماع داخل إدارة بوش أن نظام مبارك قدم كل ما يمكن تقديمه من تنازلات، وأن عوامل الرحيل أقوى كثيرًا من أسباب البقاء.
وفى الوقت الذى كانت تتأهب فيه واشنطن للبحث عن طاولة حوار معلن مع الإخوان وتنظيمها الدولى، كانت القاهرة تطوى صفحة الانتخابات الرئاسية والبرلمانية بما فيها من صراعات الحزب الوطنى الداخلية، وتفتح آذانها وميادينها لهتافات خرجت من قلب المحلة الكبرى ودوى صداها فى شتى الأنحاء، حينما قررت الطبقة العاملة أن تشعل فتيل معركة جديدة بحثًا عن الحقوق المسلوبة فى دولة سيطر رجال الأعمال على مفاصلها.
راقبت واشنطن فى صمت شروخ النظام وهى تتسلل من القاع إلى القمة، وتابعت الميادين وهى تفتح أبوابها للوافدين الجدد من عمال وفلاحين لم يشغلهم برنامج أيمن نور الانتخابى أو قضية تزوير توكيلات حزب الغد.. ولم يلتفتوا كثيرًا إلى صراعات الحزب الحاكم الداخلية ومستقبل مبارك فى السلطة.
تابعت إدارة بوش الأبن مشهد القاهرة وعقدت دوائر الأمن والاستخبارات الأمريكية الاجتماعات وأعدت التقارير.. رسم الـ«CIA» تقديرات عدة للمواقف بعضها ما عنونته الوكالة الشهيرة بعبارة «سرى للغاية»، وبعضها ما كان على الهواء مباشرة وعبر الشاشات، وكان الإجماع شبه قائم على أن الإخوان دون غيرهم هم الفصيل القادر على احتواء ما هو قادم من نزاعات، وأن الإخوان وحدهم قادرون على ملء أى فراغ محتمل فى القمة، وأن الإخوان عما دونهم باستطاعتهم السيطرة على أى شغب وارد فى القاع.