قضية إبراهيم كان المحور فيها هو الإشكالية الدائمة بين الحكومة ومنظمات حقوق الإنسان وهى التمويل الأجنبى، وفى دفاعهم عن إبراهيم أمام «النقض» قال محاموه، إنه «لم يخالف الأمر العسكرى الذى يجرم تلقى تبرعات من الخارج، لأن مركز ابن خلدون يربطه تعاقد مع الاتحاد الأوروبى، حصل بموجبه على أموال لمراقبة الانتخابات»، كما نفى المحامون عن موكلهم تهمة النصب، لتقضى المحكمة بالإفراج عن أستاذ الجامعة الأمريكية، وسط الحضور المكثف للدبلوماسيين من سفارات الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا وهولندا والدنمارك وسويسرا وإسبانيا والسويد وكندا وإيطاليا واليونان، ومفوضية الاتحاد الأوروبى بالقاهرة، فضلا عن عضوة البرلمان الأوروبى إيما بنينو.
وكما سبق القول فإن الحضور الأبرز كان لممثلى الإدارة الأمريكية وكذلك الاهتمام الواضح بكل تفاصيل القضية، ومنذ بدايتها صعدت واشنطن من لهجتها الرافضة لكل الإجراءات فيها، ووصل الأمر إلى ربط جزء من المعونة الأمريكية لمصر بالإفراج عن إبراهيم، وفور صدور حكم الإفراج، سارع سفير واشنطن بالقاهرة آنذاك ديفيد وولش إلى إصدار بيان قال فيه: نأمل أن تنتهى هذه الإجراءات القضائية بسرعة، وألا تتعطل، حيث إن صحة الدكتور سعد الدين إبراهيم ليست فى حالة قوية، وهذا التطور فى القضية سوف يعطيه فرصة لتلقى العلاج بعد الإفراج عنه»، مضيفا أن «السفارة الأمريكية بالقاهرة كانت على اتصال دائم مع أسرة إبراهيم»، ومؤكدا أن أنه كان حريصا على زيارة الدكتور إبراهيم فى محبسه «بشكل دائم ومنتظم».
لم يقض مدير مركز ابن خلدون فى الحبس على ذمة القضية وبعد صدور الحكم بسجنه سوى 16 شهرا، كانت على فترات متفاوتة الأولى 40 يوما على ذمة القضية بدأت من 30 يونيو عام 2000، واستمرت حتى 10 أغسطس من نفس العام والثانية كانت قرابة 11 شهرا، بدأت فى 21 مايو عام 2001 عقب صدور الحكم للمرة الأولى بسجنه 7 سنوات، واستمرت فى قبول الطعن وإعادة المحاكمة، والفترة الثالثة وهى نحو أربعة أشهر بدأت فى 29 يوليو 2002، عقب صدور الحكم للمرة الثانية بحبسه بنفس العقوبة 7 سنوات قبل أن تقبل «النقض» طعنه على الحكم، وتقرر الإفراج عنه، وطوال هذه المدة لم تتوقف السلطات الأمريكية عن إبداء اهتمامها بسير القضية، ومطالبة القاهرة بالإفراج عن إبراهيم، منذ اللحظة الأولى التى تفجرت فيها القضية، وذلك فى ليلة 30 يونيو من العام 2000، حين ألقى القبض على إبراهيم و27 من العاملين والمتعاملين معه ومع مركز ابن خلدون وهيئة دعم الناخبات، وخلال فترة التحقيقات وبعد صدور قرار إحالته إلى القضاء.
وفى مقابل الوجود الأمريكى الواضح فى المشهد المتعلق بسعد الدين إبراهيم لم يكن الرجل بالشخص الذى يمكن له أن يخفى علاقاته بواشنطن، بل كان حريصا على التفاخر بذلك وبتشعب تلك العلاقات مع دوائر مختلفة داخل البيت الأبيض.
بين الحين والآخر، كان نظام مبارك يلوح بقانون للجمعيات الأهلية وفى المقابل تسارع المنظمات الحقوقية إلى قيادة رأى عام مناهض لما كان يطرح من قبل نظام مبارك فى هذا الشأن، وكانت ولا تزال الإشكالية القائمة بين الطرفين هى التمويل الأجنبى، حتى أطاحت ثورة يناير بمبارك ونظامه، وبدا واضحا أن الإدارة الأمريكية تعول على أن يكون للقريبين منها سواء من النشطاء الحقوقيين أو من تيارات سياسية كجماعة الإخوان المسلمين، دورهم فى صياغة المشهد المصرى فى مرحلة ما بعد مبارك، بعد أن كانت تلوح بهؤلاء قبل يناير 2011 كأداة للضغط على نظام مبارك، باعتباره نظاما مستبدا فى مواجهة معارضيه، على الرغم من أن مبارك ونظامه لم يترددا لحظة فى تبنى كل ما من شأنه استرضاء الإدارات الأمريكية المختلفة وفى مختلف المجالات، حتى جرت القطيعة فى نهاية عهده مع إدارة أوباما التى أبدت دعما معلنا وصريحا لرحيله عن الحكم.
وسريعا ما عادت إشكالية التمويل لتطل برأسها فى مشهد العلاقة بين واشنطن والقاهرة، مع تفجر القضية 173 لسنة 2011 المعروفة إعلاميا باسم «التمويل الأجنبى للمنظمات الأهلية ومنظمات المجتمع المدنى»، ووجه فيها القضاء المصرى اتهامات لـ43 ناشطا من مصر والولايات المتحدة وألمانيا والنرويج ولبنان وفلسطين بإنشاء جمعيات أهلية دون ترخيص وبالحصول على تمويل أجنبى دون ترخيص، وضمت القائمة 19 ناشطا أمريكيا من بينهم سام آدم لحود، مدير مكتب المعهد الجمهورى الدولى فى القاهرة، ونجل وزير النقل الأمريكى راى لحود، فيما ضمت قائمة المنظمات المتهمة: المعهد الجمهورى الدولى الذى يشغل منصب مديره السيناتور الأمريكى جون ماكين والمعهد الديمقراطى الوطنى الذى أسسته وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة مادلين أولبرايت وفريدوم هاوس والمركز الدولى الأمريكى للصحفيين وتتلقّى كلّها تمويلات أمريكية فيدرالية، كما كانت مؤسسة كونراد أديناور الألمانية متهمة بالقضية أيضا.
ورصدت التحقيقات حصول المعهد الجمهورى الدولى على 22 مليون دولار والمعهد الديمقراطى الوطنى على 18 مليون دولار وفريدوم هاوس على 4.4 مليون دولار والمركز الدولى الأمريكى للصحفيين على ثلاثة ملايين دولار ومؤسسة كونراد أديناور الألمانية على 1.6 مليون يورو، فيما قرر قاضى التحقيقات منع متهمين من السفر إلى خارج مصر، وتمت إعادة سام لحود من مطار القاهرة الدولى حين كان متوجها للسفر للخارج، ووقتها توجه المتهمون الأمريكيون لسفارة بلادهم بالقاهرة، وطلبوا اللجوء خوفا على سلامتهم الشخصية، وهو ما ردت عليه السفارة بأنه لا يوجد ما يهدد سلامتهم الشخصية.
وفى العام 2012 قرر قاضى التحقيقات فى هذه القضية المستشار هشام عبد الحميد إعادة فتح التحقيقات فيها مرة أخرى، وذلك وقت تولى المجلس العسكرى، برئاسة المشير حسين طنطاوى مسؤولية الحكم فى البلاد، وهو ما استقبلته واشنطن بتصريحات غاضبة لوزير الخارجية فى ذلك الوقت جون كيرى، قال فيها إنه يشعر بالقلق تجاه وضع حقوق الإنسان فى مصر، وخاصة بعد أن قامت الحكومة المصرية بإعادة فتح ملف المنظمات الحقوقية غير الحكومية، مؤكدًا أن التحقيق فى هذه القضية مرة أخرى يأتى من أجل تخويف المعارضة السياسية والناشطين الحقوقيين والصحفيين، مطالبا الحكومة المصرية بالتعاون مع المنظمات المدنية لخدمة حقوق الإنسان «والسماح لعمل هذه المنظمات بحرية أكثر وتخفيف القيود عليها».
فى المقابل قرر قاضى التحقيق تجميد أموال أربعة متهمين، من بينهم حسام بهجت، مؤسس المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، والناشط الحقوقى جمال عيد المدير التنفيذى للشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان، بعد توجيه اتهامات لهم بتلقى تمويل من جهات خارجية بالمخالفة لأحكام القانون، بمبلغ يزيد على مليون ونصف مليون دولار أمريكى.
وأثناء سير القضية وفى فبراير 2013 تم ترحيل النشطاء الأمريكيين إلى بلادهم فى عام 2013، بعد رفع أسمائهم من المنع من السفر، وساق رئيس محكمة استئناف القاهرة، وقتها المستشار عبد المعز إبراهيم، مبررات لذلك بأن سبب إخلاء سبيل المتهمين فى القضية بضمان مالى قدره مليونى جنيه، « حوالى 330 ألف دولار وقتها»، لكل منهم جاء اعتبارا من أن الوقائع المتهمين فيها تمثل «جنحة» وليست «جناية»، وأن العقوبات المحتملة بحقهم لا تتعدى الغرامة المالية، فيما صدر حكم القضاء فى يونيو 2013 على جميع المتهمين - ومن بينهم 17 أمريكيا - بالسجن لفترات تراوحت ما بين سنة وخمس سنوات، كما أمرت المحكمة بإغلاق المنظمات غير الحكومية المتهمة ومنها المعهد الجمهورى الدولى والمعهد الوطنى الديمقراطى و«فريدوم هاوس».
لم تتوقف ردود الفعل الأمريكية وقتها عن إعلان الغضب تجاه الإجراءات التى لازمت القضية منذ تفجرها ووصلت إلى حد المطالبة بقطع المعونة عن مصر، وكان واضحا وقتها أن التصريحات الأمريكية الساخنة تستهدف منع أى مساس بالنشطاء الأمريكيين حتى تم ترحيلهم من البلاد.
تظل لافتة حقوق الإنسان موضع شد وجذب بين القاهرة وواشنطن، حتى فى تلك اللحظات التى تبدو فيها العلاقات بين العاصمتين فى مسار هادئ، وهو ما بدا واضحا أن مصر كانت تلعب دورا مهما فى مسارات التسوية فى الشرق الأوسط فى عهد مبارك، وعلى الرغم من ذلك لم تخل العلاقة من توتر، وفى العام 2017 أصدرت الخارجية الأمريكية تقريرا حول أوضاع حقوق الإنسان فى العالم وجهت فيه انتقادات للقاهرة والتى ردت سريعا على لسان أحمد أبو زيد، المتحدث باسم وزارة الخارجية المصرية، فى بيان قال فيه: «إن الخارجية الأمريكية دأبت على إعداد مثل تلك التقارير الدورية عن أوضاع حقوق الإنسان فى الدول الأخرى، وهو ترتيب أمريكى ينطلق من اعتبارات داخلية ويعكس وجهة النظر الأمريكية، ولا يرتبط بأى حال بالأطر القانونية التعاقدية التى تلتزم بها مصر أو منظمات الأمم المتحدة التى تتمتع مصر بعضويتها»، مضيفا: «أوضاع حقوق الإنسان فى مصر ترتبط بالتزامات دستورية واضحة، ويتم مراقبتها من جانب المؤسسات الوطنية المصرية، الحكومية أو المستقلة مثل المجلس القومى لحقوق الإنسان، فضلاً عن مجلس النواب الذى يراقب ويتابع أداء السلطة التنفيذية فى كل مناحى عملها».