يوم أن انتهى المفكر الدكتور عبدالوهاب المسيرى من إنجاز مشروعه الفكرى الكبير «موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية»، فى 8 مجلدات عام 1999، تلقى خبرًا حزينًا وهو «وفاة زوج ابنته»، ويصف حالته حين تلقى الخبر: «زلزل كيانى، ولاحظت أننى بدأت أفقد القدرة على النطق أحيانا»، ويضيف فى سرده لرحلة حياته «رحلة عبدالوهاب المسيرى الفكرية»، إعداد دكتور عمرو شريف «الهيئة العامة لقصور الثقافة-القاهرة»: «تمرد جهازى العصبى على، وأخذ يتصرف بإرادته مستقلا عنى، بعد أن وضعته داخل ثلاجة مدة ربع قرن، إذ قرر أن يستجيب وبحدة لأى شىء دون تدخل واعٍ منى، فكنت حين أود عبور شارع ما، أخاف، رغم معرفتى الواعية بأن العبور لن يسبب لى شيئًا، فكانت قدماى لا تتحركان، وكنت أضحك من توقفى، ومرة قبلنى طفل صغير فتأثرت كثيرا، وأصبت بدوار شديد كدت أسقط على أثره، ومرة أخرى رأيت خادمة صغيرة تحمل أثقالا، فحزنت من أجلها، وأصبت بما يشبه الشلل وهكذا».
كان هذا الزلزال مفتتحًا لرحلة أخرى من المرض، بدأت بشعوره بألم فى ظهره، وتبين أنه مصاب بالسرطان فى نخاع العظام، ولأن هذا التدهور كان مفاجئا فإن هناك من ربطه بإسرائيل، فحسب قوله: «لأن التدهور فى حالتى الصحية بدأ يوم أن انتهيت من الموسوعة، انتشرت شائعة طريفة فى القاهرة مفادها أن الموساد هو الذى تسبب فى إصابتى بالمرض».
انتقل «المسيرى» من حالة الالتزام الصارم بما فرضه على نفسه طوال 25 عاما لإنجاز موسوعته المتفردة، إلى حالة تأمل الحياة أثناء المرض، ويتحدث عن الحالة الأولى: «لإنجاز الموسوعة التى بلغ عدد كلماتها ما يزيد على مليونى كلمة، كان على أن أتبع نظاما حديديا فى حياتى، فأهملت الكثير من مسؤولياتى العلمية، وضمرت حياتى الاجتماعية إلى حد كبير، كنت أستيقظ فى الصباح المبكر قبل السادسة، وأبدأ فى الكتابة حتى الثانية عشرة مساء لا أتوقف إلا لتناول وجبات الطعام أو النوم ساعة فى الظهيرة»، أما الحالة الثانية، وهى حالة المرض، فيقول عنها: «تعلمت أنا الذى لم أمرض مرة واحدة تقريبا فى أثناء كتابة الموسوعة، كما أعددت عشرات المشروعات البحثية فور الانتهاء منها، بل وكنت أتحدث عن السيطرة على الجسد، تعلمت حدود الجسد الإنسانى وحدود المقدرة الإنسانية، بدأت أتعاطف مع المعوقين أكثر من ذى قبل، وتعلمت أنه لا يوجد مرضى، أى أنه لا توجد قوانين عامة للمرض، وإنما يوجد أشخاص يصابون بمرض ما، ويستجيب كل واحد منهم بطريقة مختلفة، وتعلمت أهمية أن يقف المرء إلى جوار الآخرين فى لحظات الشدائد».
هكذا سارت حياة هذا المفكر العظيم الذى اعتنق «الماركسية» فى شبابه، وأصبح عضوا فى الحزب الشيوعى «حدتو» عام 1955، ومسؤولا حزبيا عن مصنع «شربيط لتجفيف البصل» فى «الحضرة» بالإسكندرية، ويتذكر: «من الطريف أننى بموضوعية وأمانة كاملتين، كنت أبين لهم فى الحزب أنه يجب ألا أصعد بسبب خلفيتى البرجوازية، ولابد من اختبارى والتأكد من نقائى الأيديولوجى»، ومع هذا استمروا فى تصعيدى، ووجدتنى مسؤولا عن خلية، وعضوا فى لجنة منطقة الرمل»، ولما أصبحت مسؤولا حزبيا عن مصنع «شربيط» نجحت فى تنظيم إضراب للعمال، ولكن، والحق يقال، كنت أشعر بأن وجودى بينهم كان نشازا، إذ إن درجات الفقر بين بعضهم لم تكن تصدق، وكانت تتزايد بسبب الإضراب، فكان هذا يصدمنى ويولد إحساسا عميقا بالذنب بسبب مستواى المعيشى المرتفع». قدم المسيرى استقالته من الحزب الشيوعى، ثم هجر الماركسية كمعتقد، وفيما بعد سخر كل شىء فى حياته لأجل مشروع «موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية»، وحين انتهى منه دخل فى مشروع المرض وظل به حتى وافته المنية ليلة الأربعاء الخميس، 3 يوليو «مثل هذا اليوم» عام 2008، وعمره 70 عاما «مواليد 1938 مدينة دمنهور- البحيرة»، واللافت أنه فى شهوره الأخيرة من المرض قدم نموذجًا فى «كيف يكون دور المثقف»، حيث لم يقعده المرض بكل قسوته عن معارضة نظام الرئيس حسنى مبارك، فتولى موقع «المنسق العام لحركة كفاية» التى تشكلت لرفض تجديد مبارك لترشيحه لرئاسة الجمهورية عام 2005، ورفعت شعار: «لا للتمديد، لا للتوريث»، وقاد مظاهراتها وتم القبض عليه وزوجته وثلاثين آخرين أثناء مظاهرة يوم 17 يناير 2008، وحملتهم سيارة من قلب القاهرة وألقت بهم فى الصحراء، وأثار هذا التصرف الغضب وقتها، مما جدد اتهام نظام مبارك بتقاعسه عمدًا عن علاجه على نفقة الدولة، وكان الأمير السعودى «عبد العزيز بن فهد» هو الذى يتحمل نفقات علاجه.