"الرحلة انتهت..لا تعاندوا القدر"، تلك كانت آخر كلمات "الأستاذ" لأسرته قبل الوداع.. فـ"الاستعداد للرحيل"، كان حال الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل خلال الفترة الأخيرة، وهكذا كان يحدث نفسه دائما، ولا يرى فى ذلك تشاؤما، مثلما يريد البعض أن يسميه، لكنه دائما ما كان يحدث من حوله بأنه راحل قريبا.
كان "هيكل"، دائما يعتبر أسرته وبيته جنته الخاصة، التى لا يرغب في أن يقترب منها أحد، ولا يسمح لأحد أن يتحدث في خصوصياته، خاصة زوجته "مدام هدايت علوي تيمور"، لحرصه طول حياته على ألا يتسبب في المتاعب لأولاده وأحفاده"، ولأن "الأستاذ" كان دقيقا فى إدارة كل شئون حياته، فإنه ترك "وصيته" لأسرته، تحدث فيها عن علاقته – التي كانت طوال الوقت حميمية فيما بينهم – وحدد فيها مصير وثائقه ، بأن أوصى بإعطاء وثائقه الخاصة التى حصل عليها طوال رحلته منذ الخمسينيات وثورة 23 يوليو إلى "دار الوثائق" لتكون حقا للأجيال القادمة والدولة لتعرف حقائق كثيرة عن أحداث عاصرها هيكل وكان شاهدا عليها أو طرفا فيها.
في 9 صفحات "فولسكاب" وبخط يده، دون "الأستاذ" وصيته التى تركها لبيته، نصفها يتعلق بحب حياته كما كان يسميها "مدام هدايت"، وخلت الوصية من أية أمور مادية ، فلم يذكر فيها أى شيء من ممتلكات أو إرث أو ماديات فكل هذه الأشياء، لم يكن يعتبرها الأستاذ ، كما نقل المقربون منه، ذات قيمة عندما يتعلق الأمر بأعز ما يملك، وهم أسرته.
الوصية، التى تم فتحها بحضور أسرة "الأستاذ" فور تأكدهم أنه قد حان موعد الانصراف، جاءت على شكل مصارحة إنسانية، وتعبير شخصى من الأستاذ لأسرته، فكل ما حوته الوصية جاء فى شكل خطاب إنسانى كما نقل مقربون من الأستاذ .
وصية "الأستاذ" التي تركها لم يطلع عليها أحد تفصيلا سوى أسرته وهم زوجته مدام هدايت، وأبناؤه الثلاثة ، أحمد وحسن وعلى، ولم ينقلوا منها لأحد أى تفاصيل، إلا النذر اليسير، الذى يتعلق بما يمكن أن يكون متاحا للمقربين، "وهم عدد قليل جدا خلافا لما يروجه البعض ويدعى أنه مقرب من الأستاذ وأسرته" ، حيث لم يكن يسمح لأحد، وكذلك أبناءه من الاقتراب من شيء يخص الأسرة، وكذلك تعلم الأبناء أنه يحرص علي وضع سياج من الخصوصية والسرية على تفاصيل حياتهم، فلم ينقلوا لأحد شيئا من أسرار "الأستاذ" إلا ما يرون أنه يخص أشياء ظاهرية مثل الجنازة أوما يتعلق بها.
ما خرج حتى الآن من وصيته لا يتعدى ما يتعلق بالجنازة ومراسم العزاء، حيث أوصى "هيكل"، أن يخرج جثمانه ويصلى عليه في مسجد الحسين، وقال إن هذه أمنيته منذ أن كان طفلا فى حي الحسين لما ارتبط به إنسانيا ووجدانيا ، كما أوصى بالاكتفاء بجنازة بسيطة خالية من الرسميات والقيود، ليكون فى رحيله -كما نقل بعض ممن أطلعوا على الوصية - رجلا بسيطا، يخرج فى صمت، ودون صخب أو ضجة، وأوصي أيضا بعدم نشر أى نعى له من الأسرة في الصحف .
كما أوصى "الأستاذ" ألا يقام له عزاء، إلا أن بعض المقربين أقنعوا الأسرة لإقامة عزاء خاص بأسرته بعد أن أعلنت عدة جهات أنها ستقيم له عزاء، فتقرر أن يكون يوم الإثنين 22 فبراير بمسجد عمر مكرم.
وصية الأستاذ بنقل وثائقه إلى "دار الوثائق " قرار اتخذه قبل عامين تقريبا بعدما تعرضت مكتبته فى "برقاش" أغسطس 2013 ، إلى حريق التهم العديد من الوثائق الخاصة بالحروب المصرية – إن لم تكن جميعها - ، ودمر "يوميات حرب فلسطين" التى حصل عليها من "حيدر باشا" وزير الحربية قبل الثورة، كما احترقت كل الأوراق والكلاسيكيات التى تؤرخ لتاريخ مصر، وتتناول ذكريات من زيارات زعماء العالم ، فقد كان الأستاذ دائما يتفاخر بأنه " لديه من كل ورقة قرأها جمال عبد الناصر نسخة، وأنه يحتفظ بأصول الوثائق النادرة عن ثورة يوليو 1952" ، بالإضافة للوثائق التي يمتلكها عن التاريخ المصري منذ عهد الملكية وحتى الآن.
الكاتب الكبير"هيكل" كان قد ذكر فى حديث سابق له أن لديه 175 ألف وثيقة مصرية، من بينها أوراق عبد الناصر والرسائل المتبادلة بينه وبين ملوك ورؤساء الدول العربية، وعشرات الساعات الصوتية المسجلة لعدد من الشخصيات السياسية التى لعبت أدواراً مهمة فى تاريخ مصر، قبل الثورة وبعدها، فضلاً عن 700 ألف وثيقة أخرى، جمعها خلال جولاته بمختلف أنحاء العالم، وكثير منها دار حول العلاقات العربية بكل من بريطانيا وفرنسا وأمريكا وإسرائيل".
وصية الأستاذ "هيكل"، كانت خاصة جدا وعبرت عن ارتباطه الكبير بأسرته، وهو ما ظهر فيما أفرد له من حديث ضمن سطورها عن ابنه "حسن"، كشف عن تأثره الشديد بغيابه عن مصر لكنه تضمن أيضا أنه يقدر جدا موقفه وظروفه.