البيروقراطية صداع فى رأس النظام.. 6 ملايين موظف يعملون بالجهاز الإدارى.. والدراسات تؤكد: نقص التشجيع والحافز المادى يخفض كفاءتهم بنسبة 35%.. وتغيير السياسات من مسئول لآخر يزيد الأمر سوءا

«فوت علينا بكرة».. العبارة الأشهر التى ارتبطت بالجهاز الإدارى للدولة منذ صدور المرسوم الملكى الخاص بإنشاء ديوان الموظفين عام 1951، حتى وقتنا الحالى، فعلى مدى 65 عامًا من ضلوع طبقة الموظفين فى تقديم الخدمة العامة للجمهور، من استخراج الأوراق الثبوتية، وإنهاء أوراق السفر والإقامة ومنح الجنسية داخل البلاد، وحتى تسجيل براءة الاختراع، وإيجاز إقامة المشروعات الاستثمارية الكبرى، اتسم الجهاز الإدارى فى مصر بالبيروقراطية الشديدة التى أدت فى كثير من الأحيان إلى تعطيل مصالح المواطنين، وزيادة الشكاوى ضد الجهاز الإدارى للدولة.

6 ملايين موظف، هم إجمالى عدد العاملين بالجهاز الإدارى للدولة الذى بات يمثل عبئًا على الدولة، بسبب عدم استخدام التكنولوجيا الحديثة، والمركزية، والروتين المعقد الذى بموجبه يضطر طالب الخدمة إلى المرور على عشرات المكاتب، ونوافذ الخدمة قبل أن تتعطل أوراقه بالكامل، بسبب عدم وضوح ختم النسر، أو إغفال إرفاق طابع الدمغة بالطلب، وما إلى ذلك من إجراءات بيروقراطية معقدة، تتسبب فى نفور بعض الفئات من السير فى الإجراءات العادية للحصول على الخدمة، والبحث عن باب خلفى يضمن سرعة إنهاء الخدمة وكفاءتها، الأمر الذى تسبب فى ظهور سماسرة ووسطاء يختصرون الطريق الطويل للإجراءات عن طريق «الشاى» أو الإكرامية أو الرشوة التى تبدأ من 10 جنيهات، وقد بات المواطن لا يجد حرجًا فى دفعها مقابل تجنب الوقوف فى الطوابير الطويلة.

روتين حكومى قانون الخدمة المدنية كان إحدى المحاولات من قبل الحكومة للتخفيف من أعباء الجهاز الإدارى للدولة، إلا أن رفضه من قبل نواب مجلس الشعب جاء بسبب ما أثاره القانون من جدل بين طبقة الموظفين، ممن رأوا فى القانون محاولة للتصفية وليس الإصلاح، وقد استجابت الدولة لتصويت أعضاء مجلس الشعب، وإعادة العمل بالقانون رقم 47 لسنة 1978، ليطل السؤال مرة أخرى: كيف يمكن تحسين الجهاز الإدارى للدولة دون الإضرار بمصالح الموظفين من جانب، وحاجة المواطنين وطالبى الخدمة من جانب آخر؟ ويرتبط الجهاز الإدارى بتقديم الخدمات فى العديد من المجالات العامة، وإدارة أجهزة الدولة التنفيذية، وفقًا للسياسة العامة، ويشمل الجهاز الإدارى ثلاثة قطاعات، هى موظفو الخدمة المدنية، والهيئات العامة والقطاع العام وقطاع الأعمال العام، والرقابة الإدارية.

ويضم قطاع الخدمة المدنية 618 جهة، يعمل بها ما يقرب من 6 ملايين موظف، تصل رواتبهم السنوية للعام الحالى إلى 218 مليار جنيه، بعد أن ارتفعت أجور العاملين بالدولة خلال السنوات الثلاث الأخيرة بشكل كبير، حيث كانت لا تتعدى الـ86 مليارًا، وبرغم ضخامة ذلك المبلغ، فإن شريحة صغار الموظفين فى أغلب القطاعات تعانى من تدنى الرواتب، وعدم تماشيها مع الارتفاع المستمر فى الأسعار، وفى هذا الشأن نظم موظفو الإدارات المختلفة عددًا من الاحتجاجات، لزيادة رواتبهم، بما يتناسب مع تكاليف المعيشة.

وكانت آخر تلك الاحتجاجات من قبل موظفى وزارة الأوقاف الذين نظموا إضرابًا عامًا بمكاتب الوزارة بعد قرار وزارة المالية بوقف صرف رواتبهم بموجب الحد الأدنى، بدعوى أن الوزارة هيئة اقتصادية وليست ديوانًا حكوميًا يخضع لقوانين الخدمة المدنية، الأمر الذى أدى إلى خفض رواتبهم من 1200 إلى 600 جنيه، وقد استجابت الحكومة للإضراب عقب بضعة أيام من بدايته، ووافقت على زيادة رواتبهم بنسبة 10%.

ويعطينا المثال السابق فكرة عن تدنى أجور موظفى الدولة، فى ظل موجات الغلاء التى تضرب الأسعار عامًا بعد عام، ولكن تلك الطبقة لم تكن دائمًا بمثل هذا الحال من التدنى، فقد شهدت عصرها الذهبى، خاصة خلال فترة الخمسينيات من القرن الماضى، حين ظهر التعبير العامى «إن فاتك الميرى اتمرمغ فى ترابه»، والذى يشير إلى نظرة المجتمع وقتها لطبقة «الأفندية» من أصحاب الوظيفة الحكومية الذين كانوا يتمتعون بمزايا مادية وأدبية لا تتوفر لغيرهم.

ديوان الموظفين «نحن فاروق الأول ملك مصر، قررنا بناء على القوانين السابقة وما عرض علينا من وزير المالية ومجلس الوزراء إنشاء هيئة ديوان الموظفين، هيئة قائمة بذاتها».. العبارة السابقة جاءت فى النشرة التشريعية التى وضعت على أحد الأرفف بقاعة الأمم المتحدة بدار الكتب، والتى يعود تاريخ إصدارها إلى بداية عام 1952، وقبل بضعة أشهر من قيام حركة الضباط الأحرار، وانتهاء الحكم الملكى فى مصر، وقد جاء المرسوم الملكى بإنشاء ديوان الموظفين مكملًا للقانون رقم 190 لسنة 1951 الذى أسس لإنشاء أول هيئة قائمة بذاتها فى مصر لرعاية الجهاز الإدارى للدولة.

ووضع القانون من ضمن اختصاصات ديوان الموظفين الإشراف على تنفيذ اللوائح، وتحديد عدد الموظفين ودرجاتهم وفقًا لحاجات العمل، ووضع نظام الامتحانات اللازمة للتعيين، ومراجعة مشروعات الميزانية، واقتراح التشريعات الخاصة بهم، وكان رئيس هيئة ديوان الموظفين وقتها يحصل على راتب شهرى يصل إلى 1800 جنيه.

وعقب ثورة 23 يوليو ازدادت الحاجة لديوان الموظفين بسبب المشروعات الطموحة، وخطط إقامة عدد من المشروعات الصناعية والتنموية، إضافة إلى عمليات التأميم الضخمة، ما أدى إلى صدور عدد من القرارات التنظيمية الجديدة الخاصة بأجهزتها الإدارية.

وقد رصدت دراسة للباحث محمد هاشم، بعنوان « البيروقراطية الإدارية وأثرها على الأداء الحكومى» التطورات التى شهدها الجهاز الإدارى خلال فترة حكم الرئيس جمال عبدالناصر، والتى جاء فيها أن نظام «ناصر» اعتمد استراتيجية قومية تنموية، تعتمد بشكل أساسى على الإدارة فى دفع عجلة الإنتاج، الأمر الذى أدى إلى إصدار المزيد من القرارات والقوانين الخاصة بالجهاز الإدارى، والتى أدت فى نهاية الأمر إلى مزيد من التعقيدات والبيروقراطية فى أدائه.

هذا إضافة إلى الموارد البشرية التى تراجعت فى مستواها، نتيجة لالتزام الدولة بتعيين خريجى الجامعات المصرية، بدلًا من الاختيار من بينهم على أساس الكفاءة والاختصاصات والمهارات التى تحتاجها الدولة، وقد أدى ذلك إلى محاولة تعديل اللوائح الإدارية الخاصة بديوان الموظفين، فصدر القانون رقم 118 لسنة 1964، والخاص بإنشاء الجهاز المركزى للتأمين والإدارة، ونقل اختصاصات ديوان الموظفين له، كما أضيف إلى مهامه أيضًا فى المادة 8 المشاركة فى التعبئة للمجهود الحربى للدولة.

وبناء على ما سبق، بدأ الجهاز الإدارى للدولة فى التضخم، حيث وصل عام 1960 إلى 670 ألف موظف، فى حين وصل إلى 1.5 مليون موظف عام 1977، وفى التسعينيات زاد عدد العاملين بالجهاز الإدارى إلى الضعف، ليصل إلى 3 ملايين موظف، وصولًا إلى 6 ملايين موظف فى الوقت الحالى، مكونين دولة الموظفين التى لها ما لها، وعليها ما عليها.

الباب المفتوح وخلال نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات من القرن الماضى، بدأت الدولة تتجه إلى سياسة الانفتاح، أو سياسة الباب المفتوح، وبدأت تلوح فى الأفق النية لخصخصة إرث القطاع العام، والتخلص منه، وكرد فعل لمكاسب الأعمال الخاصة، وفتح المنطقة الحرة فى بورسعيد، أخذت مكانة الوظيفة الحكومية فى التراجع، وتحول الموظف الحكومى لسائق تاكسى أو تاجر أو حالم بالسفر إلى الخليج.

وقد سجلت السينما تلك التغيرات الاجتماعية المهمة التى طالت طبقة الموظفين، نتيجة ارتفاع الهوة بين الأسعار والمتطلبات المادية للمعيشة خلال فترة الثمانينيات، فخرج واحد من أهم الأفلام التى أرخت لمشكلة الدخل المحدود والصعوبات المادية للموظف الحكومى، مع المحاذير القانونية ضد العمل فى وظيفة إضافية، وهو فيلم «حد السيف»، إخراج عاطف سالم، وسيناريو وحيد حامد، وبطولة الفنان محمود مرسى.

وقد جسد الفنان محمود مرسى خلال أحداث الفيلم دور موظف بدرجة مدير عام فى إحدى الهيئات الحكومية، يفشل فى تلبية احتياجات أسرته بسبب راتبه المحدود، ويضطر فى نهاية الأمر إلى تحويل هوايته كعازف على آلة القانون إلى مهنة تتيح له دخلًا إضافيًا، ويلتحق بفرق إحدى الراقصات، ليبدأ الصراع بداخله خوفًا من افتضاح أمره أمام أسرته.

أما حال الجهاز الإدارى للدولة خلال السنوات القليلة الماضية، فقد لخصه الدكتور أشرف العربى، وزير التخطيط، فى تصريحات إعلامية سابقة له، إذ أكد أن الجهاز الإدارى للدولة يعانى من تضخم العمالة، وارتفاع تكلفتها التى تصل إلى نحو 207 مليارات سنويًا، أى ما يعادل 26% من ميزانية الدولة، وذلك إضافة إلى غياب الشفافية، والمساءلة، وانتشار الفساد، وكثرة التشريعات وتعديلاتها وتضاربها، والمركزية الشديدة، وسوء حالة الخدمات العامة، وضعف إدارة الأصول المملوكة للدولة. وهكذا ورث النظام الحالى تلك التركة الثقيلة من جهاز إدارى يعانى الكثير من العيوب، وتكثر منه الشكاوى، ويضرب به المثل فى التواكل، وعدم الإنجاز، حيث شاع استخدام عبارات من قبيل «إنت موظف» أو «إحنا مش حكومة»، للدلالة على الافتقار إلى الجودة والدقة والسرعة المطلوبة فى أداء الخدمة وتقديمها.

وقد أوجز الدكتور حسين عطية، أستاذ الإدارة العامة بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، فى إحدى أوراقه البحثية أهم عيوب الجهاز الإدارى فى عدد من النقاط، أهمها عدم وضوح أهداف العمل فى الإدارة الحكومية، وغياب معايير تقييم الأداء، إضافة إلى تضخم العمالة وسوء توزيعها مع طول وتعقد الإجراءات، وسوء أساليب ومعايير اختيار القيادات الإدارية، وقدم المبانى والمعدات والآليات المستخدمة، وتعدد الجهات التى يتم اللجوء إليها لإنجاز الخدمة الواحدة.

أما الدكتور إكرام بدر الدين فقد ذكر فى أحد أبحاثه أن أهم عيوب الجهاز الإدارى تتمثل فى الفساد الإدارى الذى يرتبط بعدم تطبيق القانون، أو منح منافع لغير مستحقيها، وهناك أيضًا البيروقراطية التى تعنى عرقلة أداء العمل، وإطالة المدة الزمنية اللازمة لإنجازها، هذا غير التعددية المبالغ فيها فى التشريعات، والتى تتيح للموظف الإدارى الذى يمارس الفساد فرصة للتلاعب والتحايل.

عرقلة الاستثمار والحقيقة أن الشكوى من البيروقراطية وترهل الجهاز الإدارى للدولة امتدت لتشمل العديد من المجالات، وكشف تقرير حديث صادر عن جهاز التنظيم والإدارة أن الروتين يعد أحد أسباب تعطيل العمل فى القطاعات الحكومية بنسبة 40%، وأن الجهود التى بذلتها الدولة بشأن الإصلاح الإدارى خلال السنوات السابقة لم تحقق أهدافها، وأن ترقية جميع الموظفين بالأقدمية، وعدم وجود حافز مادى، وعدم تشجيع الكفاءات يؤدى الى انخفاض مستوى الأداء الحكومى بنسبة 35%.

وخلال الحديث عن مشاكل الطاقة التى تعانى منها مصر، ذكر الدكتور حسين الطحطاوى، الخبير البيئى، أن هناك أكثر من 70 شركة عالمية متخصصة فى إعادة تدوير المخلفات الصلبة وتحويلها إلى طاقة تقدمت بطلبات للحكومة المصرية، لإعادة تدوير المخلفات، لكن مساعى تلك الشركات تعثرت بسبب الروتين المصرى الذى يتطلب التعامل مع أربع جهات من أجل إنهاء الإجراءات الخاصة بمشاريعها، وهم وزارات البيئة، والتنمية المحلية، والمالية، والكهرباء.

وفى مجال السياحة، ذكر أحد التقارير الإخبارية أن طول الإجراءات الخاصة بإقامة مشروعات سياحية بمنطقة البحر الأحمر يثير غضب المستثمرين، فى حين قال عبدالرحمن محفوظ، رئيس مجلس الأعمال السعودى المصرى، فى تصريحات سابقة، إن البيروقراطية والتعقيدات الروتينية على مستوى الإدارة الوسطى تعيق إقامة استثمارات من رجال أعمال سعوديين، رغم أن الحكومة المصرية تشجع مثل تلك الاستثمارات.

كما حذرت دراسة علمية مصرية من استمرار النزيف والهجرات الدائمة للعقول والكفاءات فى جميع المجالات إلى الخارج، وذلك بسبب ما يواجهه هؤلاء من مشكلات فى التمويل، أو الروتين الحكومى. وكشفت الدراسة عن وجود 720 ألف مهاجر مصرى بهذه الدول، بينهم 450 ألفًا من أصحاب الكفاءات العلمية فى المجالات المختلفة.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن قانون الخدمة المدنية المثير للجدل لم يكن المحاولة الوحيدة من قبل الدولة لإصلاح الجهاز الإدارى، فقد سبقه العديد من المحاولات، من بينها إنشاء الجهاز المركزى للتنظيم والإدارة سنة 1964، وفروعه فى المحافظات عام 1974، وتشكيل اللجنة العليا للإصلاح الإدارى سنة 1966، ومجلس التنمية الإدارية سنة 1970.

وخلال الثمانينيات من القرن الماضى تم الربط بين إصلاح الجهاز الحكومى، وخطة التنمية الاقتصادية والاجتماعية للدولة، وفى فترة التسعينيات تماشت خطط الإصلاح الإدارى مع الخطة الخمسية للدولة التى حاولت التركيز على رفع كفاءة العاملين، وإيجاد آلية للمحاسبة، وتطوير واستخدام التكنولوجيا الحديثة.

لكن كل ذلك لم يكن فعالًا فى القضاء على مشاكل الجهاز الإدارى المترهل، إذا انتقلت مشاكله عامًا بعد عام لتصل إلى وضعه الحالى، وتؤكد الباحثة إيمان الراعى فى بحث حديث لها حول الجهاز الإدارى بالدولة أن برامج الإصلاح السابق ذكرها كا يغلب عليها الأسلوب «الترقيعى»، ما أدى إلى تراكم كم هائل من القوانين واللوائح والترتيبات، كما ظل الطابع العام لعمليات الإصلاح الإدارى هو الإصلاح الجزئى. وكان من الممكن أن يكون هذا النوع من الإصلاح فعالًا فى حالة استمرار نفس سياسة المعالجة، مع تطويرها عبر الحكومات المختلفة، لكن هذا الأمر لم يحدث، إذ كان كل مسؤول جديد يتولى صنع القرار يعمل على تغيير خطط إصلاح الجهاز الإدارى شكل جذرى، والبدء فى خطة جديدة وآليه جديدة للإصلاح.






الاكثر مشاهده

"لمار" تصدر منتجاتها الى 28 دولة

شركة » كود للتطوير» تطرح «North Code» أول مشروعاتها في الساحل الشمالى باستثمارات 2 مليار جنيه

الرئيس السيسى يهنئ نادى الزمالك على كأس الكونفدرالية.. ويؤكد: أداء مميز وجهود رائعة

رئيس وزراء اليونان يستقبل الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي محمد العيسى

جامعة "مالايا" تمنح د.العيسى درجة الدكتوراه الفخرية في العلوم السياسية

الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي يدشّن "مجلس علماء آسْيان"

;