جمع السلطان أبوعبدالله، سلطان غرناطة، الفقهاء والأكابر فى البهو الكبير لقصر «الحمراء»، وحسب محمد عبدالله عنان فى موسوعته «دولة الإسلام فى الأندلس - العصر الرابع»: «نهاية الأندلس» عن «مكتبة الخانجى- القاهرة»، فإنه عرض عليهم معاهدة تسليم غرناطة إلى مملكة «قشتالة» وحاكمها فرناندو، وبعد مناقشات عاصفة طويلة تمت الموافقة، ووقع «أبوعبدالله» عليها يوم 25 نوفمبر «مثل هذا اليوم» عام 1491، ووقع «فرناندو» عليها فى نفس اليوم، وبتأكيد عنان: «هى الوثيقة التى قررت مصير آخر القواعد الأندلسية، ومصير الأمة الأندلسية».
كان «أبوعبدالله» فى الثلاثين من عمره وقت توقيعه للمعاهدة، وكانت «غرناطة» تحت حصار «جيش فرناندو» منذ شهر إبريل 1990، وحسب الدكتور السيد محمود عبدالعزيز سالم فى دراسة له بعنوان «السلطان أبى عبدالله» عن «كتاب الشعب - القاهرة- 1959»، فإنه لما اشتد الحصار «اتفق السلطان مع كبار رجاله وقوداه على مفاوضة فرناندو فى التسليم بشروط بلغ عددها 67 شرطا، منها تأمين الصغير والكبير فى النفس والأهل والمال، وإبقاء الناس فى أماكنهم ودورهم ورباعهم وعقارهم، وإقامة شريعتهم على ما كانت عليه، ولا يحكم على أحد منهم إلا بشريعتهم، وأن تبقى المساجد كما كانت، وألا يدخل النصارى دار مسلم ولا يغصبوا أحدا، وألا يولى على المسلمين نصرانى أو يهودى ممن يتولى عليهم من قبل سلطانهم، وأن يطلق سراح جميع أسرى المسلمين فى غرناطة، وألا يؤخذ أحد بذنب غيره، وألا يقهر مسلم على التنصر، وإن تنصر من المسلمين يوقف أياما حتى يقرر بنفسه، ويعلن ذلك أمام حكم من المسلمين وآخر من النصارى، ولا يعاقب من قتل نصرانيا أيام الحرب، ولا يؤخذ منه ما سلب من النصارى أيام العداء، وألا يكلف المسلم بضيافة أجناد النصارى، وألا تفرض على المسلمين ضرائب جديدة، وأن ترفع عنهم جميع المظالم والمغارم المحدثة، وأن يسير المسلم فى بلاد النصارى آمنا فى نفسه وماله، ولا تجعل للمسلمين علامة كما هو الحال مع اليهود وأهل الدجن، ولا يمنع مؤذن ولا مصل ولا صائم ولا غيره من أمور دينه، ومن ضحك من النصارى استهزاء يعاقب».
واشترطت المعاهدة حسب تأكيد عنان، أن يقدم أبوعبدالله خمسمائة شخصا صحبة وزيره «ابن كماشة» من أبناء وأخوة وزعماء غرناطة قبل التسليم بيوم واحد، ليكونوا رهائن لدى فرناندو عشرة أيام، يعودوا بعدها أحرارا، وأن يغادر أبوعبدالله غرناطة إلى البشيرات، ويؤكد عنان أنه فى نفس اليوم الذى وقعت فيه المعاهدة «25 نوفمبر»، وفى نفس المكان بمرج غرناطة: «أبرم ملحق سرى للمعاهدة الأولى، يتضمن الحقوق والامتيازات والمنح التى تعطى للسلطان أبى عبدالله ولأفراد وأسرته وحاشيته، وذلك متى نفذ تعهداته، وأبرزها، أن يأخذ أبوعبدالله هبة ثلاثين ألف جنيه قشتالى ذهب، ويحتفظ بالأراضى والحدائق التى يملكها سواء فى الغرناطة أو البشرات.
ويذكر عنان، أنه حين اجتمع الزعماء فى بهو قصر الحمراء الكبير للتوقيع على المعاهدة، لم يملك كثير منهم نفسه من البكاء والعويل، لكن شخصا منهم وهو فارس غرناطة «موسى بن أبى الغسان» كانت له كلمة أخرى تذكرها الراوية القشتالية وهى: «بقى موسى وحده صامتا عابثا وقال: اتركوا العويل للنساء والأطفال، فنحن رجال لنا قلوب لم تخلق لإرسال الدمع، ولكن لتقطر الدماء، فلنمت دفاعا عن حرياتنا وانتقاما لمصائب غرناطة، وحاشا لله أن يقال أن أشراف غرناطة خافوا أن يموتوا دفاعا عنها، وصمت موسى وساد المجلس سكون الموت، وسرح أبوعبدالله البصر حوله وصاح: «الله أكبر، لا إله إلا الله، محمدا رسول الله، ولا رد لقضاء الله، تالله لقد كتب على أن أكون شقيا، وأن يذهب الملك على يدى»، وصاحت الجماعة على أثره: «الله أكبر ولا رد لقضاء الله»، وكرروا جميعا إنها إرادة الله ولتكن، ولا مفر من قضاء الله ولا مهرب، وأن شروط ملك النصارى أفضل ما يمكن الحصول عليه».
يضيف «عنان»: «لما رأى موسى أن اعتراضه لا يجدى، وأن الجماعة أخذت فعلا توقيع صك التسليم غادر المجلس عابسا حزينا، ثم ذهب إلى داره وغطى نفسه بسلاحه وركب جواده، وغادر غرناطة ولم يره إنسان أو يسمع به بعد ذلك قط»، ويذكر «عنان» رواية أخرى تقول، أن موسى التقى بـ15 من فرسان النصارى على ضفة نهر «شتيل»، وقاتلهم وقاتلوه وهو على جواده الذى سقط بطعنة، لكنه ناضل عن نفسه بخنجره، حتى رمى نفسه فى النهر مفضلا الموت فيه بدلا من الوقع فى الأسر.
وفى يوم 2 يناير 1492 تم تسليم غرناطة، وسقوط دولة الأندلس.