قال الدكتور محمد الضويني، وكيل الأزهر، إن مسابقة "تراث الإمام الماتريدي" هي نوع من العرفان بالجميل بالعلماء الأجلاء الذين حملوا على عاتقهم خدمة هذا الدين، وفيها إحياء مآثر أهل العلم، الذين استنارت الأمة بعقولهم وعلومهم، وإذا كانت الأمة قد قيض الله لها علماء ينفون عن تراثها تأويل الجاهلين وانتحال المبطلين؛ فإن علماء أهل السنة والجماعة "الأشاعرة والماتريدية وأهل الحديث" في مقدمة الذين حملوا لواء صيانة العقيدة والشريعة والسلوك.
وأضاف وكيل الأزهر خلال تكريم الفائزين في مسابقة "تراث الإمام الماتريدي" التي نظمها مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف، أن المتتبع لمسيرة الفكر العقدي منذ العهد النبوي المبارك وحتى ظهور الفرق الإسلامية يجد أمرين مهمين: أولهما أن القرآن الكريم قد عرض أدلة العقائد في سهولة ويسر، وثانيهما: أنه خاطب خلال هذا العرض السهل قلب الإنسان وعقله، واستثار أدوات النظر فيه؛ للوصول بالبرهان العقلي المنطقي إلى إثبات وهم من خالف عقيدة الإسلام بإلحاد أو بشبهة، وتأملوا قوله تعالى: ﴿ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب﴾، لتدركوا أنها تؤسس في نفوس السامعين كمال القدرة مع كمال التنزيه.
وبين الدكتور الضويني أن المتأمل لقوله تعالى: ﴿لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا﴾، يدرك أنها تؤسس لمنهجية الرد، فيما سماه المتكلمون فيما بعد «دليل التمانع»، وقد تلقى سادتنا الصحابة هذا المنهج الرباني بالتسليم والتعلم والتعليم، وتحمل بعضهم لواء الرد على مثيري الشبهات بالمناظرة والمحاجة؛ حفاظا على الإيمان من ناحية وصيانة للمجتمعات من ناحية أخرى، ومن هؤلاء سيدنا عبد الله بن عباس، وسيدنا أبو موسى الأشعري رضي الله عنهم.
وأوضح وكيل الأزهر أنه لما نشأت الفرق الإسلامية لعدة عوامل كانت لهذه الفرق مقولات تحتاج إلى بيان وتفنيد، وكان من هذه الفرق من نزع إلى العقل نزعة كبرى، مع قوة شوكة؛ زادت المناظرات، فوقف أهل السنة في وجه كل محرف، وظهرت طائفتان تحملان لواء السنة، وكلتاهما تعودان إلى إمام جليل: الأولى: السادة الأشاعرة، ويعودون إلى إمام أهل السنة: أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري، والثانية: السادة الماتريدية، ويعودون إلى إمام الهدى: أبي منصور محمد بن محمد بن محمود الماتريدي، الذي يعود في أصول مقالاته إلى الإمام أبي حنيفة كما نص عليه أبو اليسر البزدوي بقوله: «ونحن نتبع أبا حنيفة فإنه قدوتنا في الأصول والفروع».
وأضاف أن كلا الطائفتين أصحاب منهج وسطي، وكما يقول الشيخ الكوثري رحمه الله تعالى: «فالأشعري والماتريدي هما إماما أهل السنة والجماعة في مشارق الأرض ومغاربها»، ولم تحظ هاتان الطائفتان بهذا الاسم الجليل من فراغ، ولم تكن لهما هذه المنزلة في الناس مجاملة، وإنما لما قاموا به من الوقوف ضد إفراط المعتزلة في تقديم العقل، وتفريط الحشوية فيه، وتفريط المعتزلة في التعامل مع النص وإفراط الحشوية فيه، فالأشاعرة والماتريدية لم يبتدعا منهجا يخالف منهج السلف بل هما مقرران لما قرره السلف، غير أنهم استخدموا أدوات خصومهم.
وبين وكيل الأزهر أننا لا نجتمع اليوم من أجل تكريم الفائزين في مسابقة فحسب، وإنما نجتمع لنؤصل منهجا تشتد حاجة المجتمعات إليه، في ظل ما تعانيه من أفكار فرقت بين الناس، وجعلت منهم طوائف وأحزابا، كل حزب بما لديهم فرحون، وإن من أركان المنهج الذي نؤكده في نفوس الناس اليوم تحديد الموقف من المعرفة، وليس من المبالغة أن نقول: إن عدم تحديد موقف من المعرفة ربما كان تضييعا للذات والهوية على السواء.
وأوضح أن عقد مجمع البحوث الإسلامية مسابقة حول الإمام الماتريدي يأتي انطلاقا من أهمية دراسة التراث العقدي، خاصة في ظل ما تمر به أمتنا والعالم أجمع من نشر شبهات إلحادية تحتاج منا إلى يقظة وحرص على العقيدة، ومن نشر أفكار تهدد الهويات، وتشكك الأجيال الناشئة في معارفها، فكان يجب أن نقوم بدراسة مقولات هؤلاء الأعلام، مع محاولة التعمق فيها، واستخراج لكوامنها، فبهذه الدراسة المتعمقة يمكننا أن نحدد النموذج المعرفي للإنسان المسلم الذي ينطلق منه ليحدد سائر مواقفه من الحياة والأحياء، وإن المتأمل للتراث الماتريدي يجد أن السادة الماتريدية ممن عني كثيرا بدراسة النموذج المعرفي فكانوا يقدمون بين يدي آرائهم الكلامية الموقف من مصادر المعرفة؛ ليكون الكلام عن بينة لدى المخاطب.
وأكد الدكتور الضويني أن الأزهر الشريف قد درّس داخل أروقته ومدرجاته الفكر الماتريدي، بجانب الفكر الأشعري، وقرر على طلابه الكتب الدراسية التي تشرح كلا المذهبين، ما بين شرح لمختصرات كالنونية في الفكر الماتريدي، أو منظومة بدء الأمالي، أو المتوسطات كالمسامرة، وكذا في الفكر الأشعري ما بين الجوهرة إلى المواقف للإيجي وشروحه، وإننا بهذه المسابقة نؤكد ضرورة ما قاله فضيلة الإمام الأكبر من قبل في المؤتمر الذي أقيم في أوزبكستان حول الإمام الماتريدي «من ضرورة اكتشاف الجذور، والتنقيب في التراث العريق عن الأصول الثابتة والقواعد الراسخة، واستصحابها للتدرع بها في معترك النهضات وصراع الحضارات»، مضيفا «إن هذا المؤتمر هو -بامتياز- مؤتمر اكتشاف الذات وملامح الهوية وقسماتها، وإزاحة الغبار عن الرصيد الحضاري، والموروث الفكري والروحي، من علوم العقل والنقل والذوق، بعدما أوشك أن ينطفئ أواره، وتنطمس معالمه في فترات ظلام حالك مرت ببلاد المسلمين في كل قارات الدنيا».
واختتم وكيل الأزهر كلمته بالمطالبة بزيادة التوعية حول الفكر الماتريدي وكذا الأشعري، ببيان المنهج واستخلاص الأسس والقواعد مع دراسة عميقة لتاريخ الفكر الكلامي وعلاقته بباقي علوم الشريعة، مهنئا السادة الفائزين، وشد على أيدي المشاركين راجيا لهم فرصة تفوق أخرى، موجها الشكر لمجمع البحوث الإسلامية على هذه المجهودات العلمية والدعوية الكبيرة في خدمة الإسلام والمسلمين.