نشرت دار الإفتاء ردًا مطولاً من الدكتور شوقى علام، مفتى الجمهورية، بشأن سؤال عن بناء الكنائس، وجاء نص الفتوى كالآتى:
"أمر الإسلام أتباعه بترك الناس وما اختاروه من أديانهم، ولم يُجبِرْهم على الدخول فى الإسلام قهرًا، وسمح لهم بممارسة طقوس أديانهم فى دور عبادتهم، وضمن لهم من أجل ذلك سلامة دور العبادة، وأَوْلاها عناية خاصة؛ فحرم الاعتداء بكافة أشكاله عليها".
وجعل القرآن الكريم تغلُّب المسلمين وجهادهم لرفع الطغيان ودفع العدوان وتمكين الله تعالى لهم فى الأرض سببًا فى حفظ دور العبادة من الهدم وضمانًا لأمنها وسلامة أصحابها، سواء أكانت للمسلمين أم لغيرهم، وذلك فى قوله تعالى:﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِى عَزِيزٌ ۞ الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِى الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ﴾.
قال ابن عباس رضى الله عنهما: "الصوامع: التى تكون فيها الرهبان، والبِيَع: مساجد اليهود، وصلوات: كنائس النصارى، والمساجد: مساجد المسلمين" أخرجه عبد بن حميد وابن أبى حاتم فى "التفسير".
وبذلك جاءت السنة النبوية الشريفة؛ فكتب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأسقف بنى الحارث بن كعب وأساقفة نجران وكهنتهم ومن تبعهم ورهبانهم: «أنّ لهم على ما تحت أيديهم من قليل وكثير من بيعهم وصلواتهم ورهبانيتهم، وجوار الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، ألّا يُغَيَّرَ أسقف عن أسقفيته، ولا راهب عن رهبانيته، ولا كاهن عن كهانته، ولا يغير حق من حقوقهم، ولا سلطانهم، ولا شيء مما كانوا عليه؛ ما نصحوا وأصلحوا فيما عليهم، غيرَ مُثقَلين بظلم ولا ظالمين» أخرجه أبو عبيد القاسم بن سلام فى كتاب "الأموال".
وقد كلفت الشريعة الإسلامية المسلمينَ بتوفير الأمان لأهل الكتاب فى أداء عبادتهم، وهذا كما يقتضى إبقاء الكنائس ودور العبادة على حالها من غير تعرض لها بهدم أو تخريب، وإعادتها إذا انهدمت أو تخربت، فإنه يقتضى أيضًا جواز السماح لهم ببناء الكنائس وأماكن العبادة عند احتياجهم إلى ذلك.
وإلا فكيف يُقرّ الإسلام أهل الذمة على بقائهم على أديانهم وممارسة شعائرهم ثم يمنعهم من بناء دور العبادة التى يتعبدون فيها عندما يحتاجون ذلك! فما دام أنَّ المسلمين قد ارتضوا بمواطنة غير المسلمين، ومعايشتهم، وتركهم وما يعبدون، والحفاظ على مقدساتهم وأماكن عبادتهم؛ فينبغى أن يجتهدوا فى توفير دور العبادة لهم وسلامة تأديتهم لعبادتهم.
وإذا كان النبى صلى الله عليه وآله وسلم قد أقرَّ فى عام الوفود وفد نصارى نجران على الصلاة فى مسجده الشريف، والمسجد هو بيت الله المختص بالمسلمين، فإنه يجوز -مِن باب أَوْلَى- بناءُ الكنائس ودور العبادة التى يؤدون فيها عباداتهم وشعائرهم التى أقرهم المسلمون على البقاء عليها إذا احتاجوا لذلك:
فروى ابن إسحاق فى "السيرة" -ومن طريقه ابن جرير فى "التفسير" واللفظ له، والبيهقى فى "دلائل النبوة"- عن محمد بن جعفر بن الزبير: أن وفد نجران قدموا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المدينة، فدخلوا عليه فى مسجده حين صلى العصر، عليهم ثياب الحبرات جُبَبٌ وأردية فى بلحارث بن كعب، قال: يقول بعض من رآهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ: ما رأينا بعدهم وفدًا مثلهم، وقد حانت صلاتهم، فقاموا يُصلُّون فى مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم -زاد فى "السيرة" و"الدلائل": فأراد الناس منعهم-، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «دَعُوهُم»، فصلَّوْا إلى المشرق.
وعلى ذلك جرى عمل المسلمين عبر تاريخهم المشرف وحضارتهم النقية وأخلاقهم النبيلة السمحة؛ منذ العصور الأولى وعهود الصحابة والتابعين وهلم جرًّا.
فنصَّ عالِما الديار المصرية: الإمام المجتهد المحدث الفقيه أبو الحارث الليث بن سعد، والإمام المحدث قاضى مصر أبو عبد الرحمن عبد الله بن لهيعة على أن كنائس مصر لم تُبْنَ إلا فى الإسلام، وأشارا على والى مصر فى زمن هارون الرشيد موسى بن عيسى بإعادة بناء الكنائس التى هدمها مَن كان قبله، وجعلا ذلك مِن عمارة البلاد، وكانا أعلم أهل مصر فى زمنهما بلا مدافعة.
فروى أبو عمر الكندى فى كتاب "الولاة والقضاة" (ص: 100، ط. دار الكتب العلمية): [أن مُوسَى بْن عيسى لمّا ولِّى مصر من قِبَل أمير المؤمنين هارون الرشيد أَذِن للنصارى فِى بُنْيان الكنائس التى هدمها على بْن سُليمان، فبُنيت كلّها بمشْوَرة الليث بْن سعد وعبد الله بْن لَهِيعة، وقالا: هُوَ من عِمارة البِلاد، واحتجَّا أن عامة الكنائس التى بِمصر لم تُبْنَ إلَّا فِى الْإِسْلَام فِى زمَن الصحابة والتابعين]
ويذكر المؤرخون أنه قد بُنِيت فى مصر عدة كنائس فى القرن الأول الهجرى، مثل كنيسة "مار مرقص" بالإسكندرية ما بين عامى (39هـ) و (65هـ)، وفى ولاية مسلمة بن مخلد على مصر بين عامى (47هـ) و (68هـ) بُنِيت أول كنيسة بالفسطاط فى حارة الروم، كما سمح عبد العزيز بن مروان حين أنشأ مدينة "حلوان" ببناء كنيسة فيها، وسمح كذلك لبعض الأساقفة ببناء ديرين.
ولا يوجد نص شرعى صحيح صريح وفقًا لمفتى الجمهورية، يمنع بناء الكنائس ودور العبادة وإحداثها فى بلاد المسلمين عندما يحتاج إليها أهل الكتاب من رعايا الدولة الإسلامية، بل الأدلة الشرعية الواضحة ومُجمَل التاريخ الإسلامى وحضارة المسلمين -بل وبقاء الكنائس والمعابد نفسها فى طول بلاد الإسلام وعرضها، وشرقها وغربها، فى قديم الزمان وحديثه، واستحداث كثير منها فى بلاد المسلمين فى العهود الإسلامية -كل ذلك يشهد بجلاء كيف احترم الإسلام دور العبادة وأعطاها من الرعاية والحماية ما لم يتوفر لها فى أى دين أو حضارة أخرى.