الهند شبه القارة التى لا نعرفها، ربما يكتفى البعض بالتندُّر بعبارة "أنت فاكرنى هندى؟" كنوعٍ من الاستهزاء واتهام الهنود بـ"البلاهة" و"راكبى الأفيال"، ولازلنا نستعيد مقولة أبو ريحان البيرونى عن الهند، التى وصفها ببلاد بلد ''العجائب والغرائب''، لذلك يكتسب الكتاب الذى صدر حديثًا عن مؤسَّسة الفكر العربى بعنوان "أثر الإسلام فى الثقافة الهندية" أهميةً مضاعفة، فى التعريف بالهند وثقافة أهله الذين يبلغ تعدادهم مليار و300 مليون نسمة تقريبًا.
المسلمون فى الهند أحد المجاهيل الذين لا نعرف – كعرب - عنهم الكثير، على الرغم من بلوغ نسبة تعدادهم ما يزيد عن 20% من تعداد سكان الدولة الأصلى، أى "230 مليون نسمة"، ويكاد القارئ العربى لا يعثر على دراسات تتهم بأثر الإسلام فى الثقافة الهندية فى أى مؤلَّف موضوع بالعربية أو منقول إليها، الأمر الذى يعالجه الكتاب الذى وضعه المؤرّخ الهندى تارا تشاند، وعربه محمد أيوب الندوى.
ويتتبّع المؤلف التغيُّرات التى طرأت على ثقافة الهند، بفعل نفوذ الإسلام، ويقدّم المؤلّف وصفًا ثقافيا على نحو ما كانت عليه البلاد قبل دخول الدعوة المحمدية، ثم يقسّم الثقافة إلى قسمين رئيسَيْن: أولًا الدين والفلسفة، وثانيًا الفن، مع ما يشمل من أدب وغناء وعمارة. ويستعرض كل قسم على حدة، منذ دخول المسلمين إلى الهند حتى سقوط الإمبراطورية المغولية فى القرن الثامن عشر، موضحًا جملة الممارسات والتقاليد الاجتماعية المتباينة والمتشابهة بين الثقافتين، والتى تنشأ عن التعاليم الدينية، وما أكثرها فى الهند، وهى متباينة ومتشابهة كذلك، والمعروف فى علوم الإنتروبولوجيا، أن الأديان أو المعتقدات هى بعامة المصدر الأول والأساس للثقافات.
إذن يطرح الكتاب إشكالية، تبدو جديدة على مجال الدراسات العربية، وهى "التثاقف الشرقى الشرقى"، حيث اعتاد الباحثون والدارسون على طرح عملية الحوار الثقافى بين الذات والآخر الذى اختُزِلَ فى الآخر الغربى فحسب، بينما يبحث كتاب تارا تشاند عن نقطة التقاء بين حضارتين شرقيتين، أرضية يمكن أن يقف الجميع فيها سواسية، وتمثل لحظة التواصل مسألة مثاقفة وتثاقف مستندة على المساواة فى الفاعلية والتفاعل، والتعايش الإنسانى القائم على احترام الإنسانية وإنتاجها الإبداعى والثقافى.
وتاريخيًا.. يكشف الكتاب أنّه فى عهد عمر بن الخطاب، اكتُشِفَ الطريق البرّى إلى أرض الهند، وجُمِعت معلومات كثيرة عنها أدَّت فى نهاية المطاف إلى غزو السند فى القرن الثامن على يد محمد بن القاسم الثقفى، وفى الوقت نفسه كانت التجارة عن طريق البحر متواصلة، وبنى المسلمون مستوطناتهم فى ثلاث بلدات على طول امتداد الساحل الجنوبى للهند وفى سيلان.
كما يشير إلى الوجه الآخر من بطش الحجّاج بن يوسف الثقفى حاكم العراق، الذى ساهم فى زيادة المستوطنات العربية بالهند، "ففى أوائل القرن الثامن اضطر بعض الناس من بنى هاشم، نتيجة استبداد الحجّاج، إلى مغادرة أوطانهم إلى الأبد، فنزل بعضهم فى ذلك الجزء من الساحل الغربى للهند الذى يسمّى كوكن، واستوطن البعض الآخر الجانب الشرقى من رأس كمارى".
ويبدو مجال التبادل التأثير اللغوى واحدًا من المسارات التى يمكن أن نتلمس أوجه عملية التثاقف، حيث انتقلت العديد من الكلمات والمصطلحات الهندية إلى اللغة العربية أو العكس، ففى خريطة بطليموس يستخدم للإشارة إلى الهند كلمة ميليزيجريس (Melizigeris) والجزء الأخير من الكلمة عربى، أى من كلمة جزيرة، ونضيف من ناحيتنا أن كلمة مثل ''موز'' فى السنسكريتية ''موجا'' وكذلك ''كافور'' وأصلها ''كاربورا'' والصندل وهى ''جندن''، فضلاً عن أسماء أنواع الطيب التى كانت ومازالت لها شهرة واسعة بين العرب.
وفى مجال الفن، شهد هذا العصر ظهور المدارس الهندوسية الإسلامية فى العمارة والرسم؛ وفى مجال الأدب حدث انحطاطٌ فى تعليم اللغة السنسكريتية، وازداد الاهتمام باللغات المحلية، بما فيها اللغة الأردية؛ وفى مجال العلوم أُدخلت نظريات العرب وآرائهم فى الطب والرياضيات وعلم الفلك.