استوحى الباحث والروائى التونسى حسنين بن عمو أحدث رواياته (عام الفزوع 1864) من حقبة تاريخية تناولتها الكثير من الدراسات وتناقلها الرواة جيلا بعد جيل، لكنه أعاد بناءها على نحو تخييلى تمتزج فيه جمالية السرد الروائى بشغف الغوص فى التاريخ مقتفيا رحلة الإنسان بين الأمل والخيبة بحثا عن التحرر من الاستبداد.
جاءت الرواية فى 589 صفحة عن دار نقوش عربية للنشر والتوزيع الفائزة بجائزة نور الدين بن خذر لأفضل ناشر فى معرض تونس الدولى للكتاب.
وأعاد بن عمو فى روايته إحياء شخصيات تاريخية واقعية وخلق شخصيات خيالية ليحبك بأسلوب بديع أحداث روايته ويجعل القارئ ينغمس فيها بشغف لملاحقة أحداثها المتسارعة ومتابعة تفاصيل دقيقة للوضع الاجتماعى والاقتصادى والعلاقات التى تربط المجتمع التونسى فى القرن التاسع عشر.
تدور أحداث الرواية حول الثورة الشعبية التى اندلعت فى تونس بقيادة على بن غذاهم ضد نظام محمد الصادق باى عام 1864 بسبب قرار الدولة مضاعفة الضريبة من 36 ريالا إلى 72 ريالا.
وأدى القرار إلى تمرد عدة قبائل بغرب ووسط البلاد وامتدت الثورة الشعبية إلى المناطق الساحلية والجنوبية للبلاد، واستمرت عدة أشهر قبل أن ينجح باى فى القضاء عليها.
ولاذ على بن غذاهم الذى أطلق عليه لقب (باى العربان) إلى الجبال فى غرب البلاد ثم إلى الجزائر قبل اعتقاله وموته فى سجن بحلق الوادى عام 1866.
وقال بن عمو إن رواية عام الفزوع 1864 رواية تحمل كل مقومات الفن الروائى، عمل أدبى يتداخل فيه الواقع التاريخى بالمخيال الفنى الإبداعى.
وتعنى كلمة (الفزوع) فى اللهجة التونسية الاستنفار والدعوة لمواجهة الأخطار والطوارئ، غير أن الكاتب ذكر فى تصريحات صحفية منشورة أنه اختار الكلمة لما لها من دلالات متعددة، فهى تحمل معنى الفعل "فَزَعَ" بفتح الأحرف الثلاثة أى خاف و"فَزِعَ" بكسر الزاى أى هب لإنقاذه ونجدته، وكذلك إلى ما كان يعرف قديما فى تونس بتعبير "طبال الفزوع" حين كانت تقرع الطبول لجمع الناس لإخبارهم بشىء أو فى الأفراح والمناسبات.
وقال بن عمو "الخيال أو التخيل الذكى ينقل الكتابة السردية من قيود الأحداث التاريخية إلى فضاء واسع مفتوح على الماضى والحاضر والمستقبل".
وتابع قائلا "الإطار التاريخى من أكبر الإيحائيين لابتداع الحكاية.. متعة التجاوز الذى يستنبطه الكاتب بمزج التاريخى بالخيالى".
وتنطلق الرواية من قلب مدينة تونس عندما يلجأ العاتى بن عيسى المنتمى لإحدى القبائل بغرب البلاد هو وأخته إلى صديق الدراسة السابق بجامع الزيتونة هربا من بطش قائد العسكر الذى نكل بعائلته.
وقال ابن عمو "له براثن ومخالب وأنياب نبتت له بفضل سيدك خزندار (الوزير الأكبر) فأعملها فى لحوم الناس المساكين فقطع ومزق وأسال الدماء وهتك الأعراض وأذاق المر وشرد الكثير فى الخلاء للحر والقر".
ويبدأ الكاتب فى نسج خيوط روايته عبر شبكات من العلاقات المتداخلة والمترابطة لبطلها مع بقية الشخصيات، ومنها على بن غذاهم قائد الثورة، ويعيد تصوير الأحداث الماضية بخيال مبدع ووصف ممتع.
وبجمالية فنية وقدرة وصفية نقل الكاتب الحياة فى مدينة تونس فى تلك الحقبة بحركتها وأسواقها وعوالمها الخفية وعلاقاتها الاجتماعية والسياسية المليئة بالنفاق والدسائس وحياة البذخ الفاحش والثروات الطائلة المكدسة لدى أصحاب السلطة والنفوذ وحاشيتهم ومعاناة أهل الأرياف والقبائل والقرى الداخلية الذين يرزحون تحت وطأة البؤس المادى والاجتماعى.
ودون أن يشعر، يلج القارئ وسط أحداث الرواية فيسمع القهقهات ترتفع والكؤوس تقرع متعالية على أصوات الأنين والآهات والصرخات من قهر الفقر وظلم السلطة.
ويعيش ضياع أحلام الحب على أسوار التقاليد الطبقية ويتفاعل مع دسائس الساسة وانتهازيتهم وخداعهم ويتعاطف مع المظلومين المقهورين.
ويقول بن عمو "لكتابة الرواية التاريخية يجب أن يكون للروائى زاد عميق بالموضوع أو الحقبة التى يتناولها، ورغم أنه ليس مطالبا بالتدقيق لكنه يستعمل متنا لإيصال رسالة معينة بأسلوب إيحائى بعيد عن المباشراتية".
وأضاف "فى كتابة الرواية التاريخية شقاء فى البحث والتقصى ومتعة فى التخيل، وما يصبح متناول اليد يصبح فى متناول الذهن".
يرسم الكاتب بأسلوب امتزج فيه الواقعى بالمتخيل رحلة الإنسان فى مسيرته نحو التحرر من الاستبداد والظلم بين الأمل والخيبة فى الماضى والحاضر والمستقبل.
ويقول "هى لا تخلو من غمزة للواقع والإطار الذى نعيش فيه عامة. التاريخ يؤكد أن عملية الزمن تدور وتنتج ما أنتجه فى السابق بألوان أخرى. ألوان تتماشى مع ميكانيك الأزمنة الحاضرة".
وحسنين بن عمو روائى تونسى اختص فى كتابة الرواية التاريخية. ولد عام 1948 فى نابل، وتوغل فى متاهات تاريخ تونس الوسيط على متن القصة والرواية.
بدأ مشواره فى ثمانينات القرن الماضى بقصص قصيرة عن أزقة مدينة تونس نشرت فى الصحافة على شكل سلاسل يومية ثم أصدر رواياته التاريخية (باب العلوج) و(الكروسة) و(باب الفلة) و(رحمانة) و(الموريسكية) و(حجام سوق البلاط).