صدر باللغة الإسبانية كتاب "الأندلس: الدلالة والرمزية" للمستعرب الإسبانى والأستاذ الجامعى بيدرو مارتينيث مونتابيث، المتخصّص فى دراسة العالم العربى المعاصر والعلاقات الإسبانيّة العربيّة، وقامت مؤسّسة الفكر العربى بترجمته إلى العربية، وتولّت الترجمة رانيا هاشم سعد.
غطّى الكتاب التاريخ الطويل للأندلس بوقائعه ومخلّفاته (711-1492) وتأثيره فى الوجود التاريخى لإسبانيا، وأبرَز البصمة الجليّة التى تركتها هذه البلاد فى الهويّة والتنوّع الثقافى، فهى تُشكّلُ مثالاً فريداً وقيّماً للالتقاء بين الغرب الأوروبى المسيحى والشرق العربى الإسلامى، وهذا ما يضعُ الظاهرة الأندلسيّة فى سياقٍ مميّز ومذهل من العالمية، ويضفى عليها طابعاً استثنائياً.
يتألّف الكتاب من سبعة وعشرين فصلاً يختلف كلٌّ منها بطبيعته وغايته ونطاقه، وقد وزّعها المؤلّف على خمسة أقسام، ضمّن المُستعرب الإسبانى كتابه هذا دلالة الأندلس ورمزيّتها، وعلاقتها التاريخية بإسبانبا والعالم العربى، وواقع الموريسكيين فى تلك الحقبة، وما تعرّضوا له من تهميش وشتات.
وتمُثل فصول الكتاب مجموعةً من البحوث الأدبية والتاريخية، فضلاً عن المقالات الصحافية والسيَر الذاتية والاقتراحات التى توصى بضرورة مراجعة هذه الحقبة من التاريخ، ودراستها دراسةً معمّقة وشاملة، سبق للمؤلّف أن نشرها على امتداد عقودٍ عدّة.
كما يتضمّن الكتاب مقابلة مع المؤلّف عبّر فيها تعبيراً دقيقاً عن نظرته إلى تلك الحقبة التاريخية، خصوصاً أنّ بصماتها ما زالت راسخة إلى اليوم فى إسبانيا القرن الحادى والعشرين.
يعود مونتابيث إلى ذاك الكيان التاريخى الذى يشكّل واقعاً ورمزيّة فى الوقت نفسه، بقدر ما يشكّل نهاية واستمرارية. كما يعود بهذا الكيان إلى غرناطة والحمراء فى وجدان العرب اليوم، وإلى الأندلس التى شكّلت بصمة تاريخية لا تُمحى.
ويطرح موضوع التواصل بين الثقافات الثلاث (المسيحية والإسلامية واليهودية)، فضلاً عن المثلّث المتساوى الأضلاع (إسبانيا- الأندلس والعالم العربى) والمسائل الرئيسة موضوع التباعد بين الغرب والعالم العربى.
ويصف مونتابيث الأندلس واقعاً مُنجَزاً ببُعده المادى وقد أوصدَ الزمن عليه الباب، لكنّه لم يسلبه بُعدَه الرمزى إلى اليوم، ويُشدّد على أنّ معالجةَ الواقع الأندلسى لا تتعلّق بمعالجة ما يتّصل بغيره، لا بل على العكس بمعالجة ما يتّصل بالخاصّ منه والمألوف، أى بالمعالجة الأساسية المترابطة.
فى هذا السياق يستذكِر ما قاله الكاتب الأندلسى العظيم المنحدر من مالاجا، أدولفو رييس الذى لم يأخذ حقّه من الشهرة لسوء الحظّ، "أكثر ما يهمّنا فى الواقع العربى الإسبانى تلك الحيوية التى تَسِمه، فهو نموذج عن الأثر العربى الموجود فينا، الغارق فى الأعماق منسيّاً، يتحرّك كما الذكرى الحميمة التى نحاولُ استرجاعها"، فى المقابل يورد ما قاله ميجيل دى أونامونو عن الوجود العربى فى إسبانيا وقد وصفه على النحو التالى، "إنّه خدش بسيط فى جلدنا"، ويطرح الكاتب تساؤلات عدّة من بينها هل نجحنا فى دمج العنصر الأندلسى الإسبانى العربى دمجاً كاملاً فى إطار تفكيرنا وبحثنا فى الهوية القومية؟ وهل دمجناه دمجاً عقلانياً راجحاً، وقد تخلّينا عن آليّات الطرح الغرائزية المعتادة، كما عن الحجج والبراهين الانفعالية التى وإن عكست شيئاً، فهى تعكس بوضوح عاملاً من عوامل التشنّج والصدمة.
يخلص المؤلّف إلى أنّ معالجة الواقع الأندلسى تتعلّق بـ"الآخر" الذى يشكّل جزءاً من الـ"نحن"، وهو ليس بأى حال من الأحوال آخرَ غريباً عنّا، الأندلس بالنسبة إلى مونتابيث واقع له أبعاد رمزيّة عدّة، وهو يُشكّل موضوع تأمّل بحدّ ذاته ينزع الإسبان إلى إنكاره، وهو يعتبره جزءاً من الواقع الإسبانى، لا يعنى التحدّثَ عن الواقع الأندلسى بلغة الواقع الذى "كانَ" و"وُجِد"، أنّه واقع فى الماضى ولم يعُد موجوداً، الواقع الأندلسى نموذج جليّ، لا بل هو النموذج الأروع والأكثر تعقيداً وشفافيةً عن الواقع التاريخى المتوسّطى المُغلَق، من دون أن يخمدَ ويزول.
البحثُ فى الواقع الاندلسى هو بحث جدلى بامتياز، ذلك أنّه واحد من عناصر التمييز والتفريق عن الواقع الإسبانى. لقد كان للكيان الأندلسي، بالطبع، نهاية تتمثّل رسمياً بغرناطة النصرية، (نسبةً إلى بنى نصر، أو بنو الأحمر، وهى آخر أسرة إسلامية حكمت فى الأندلس أواخر العصر الإسلامي)، لكنّه أيضاً كيان عَرفَ استمرارية. بعبارةٍ أخرى، قد تُعدّ غرناطة النصرية المحورَ ونقطة الاتّصال من وجهة نظرٍ معيّنة، أو نقطة القطع والانفصال من وجهة نظرٍ أخرى.
ويعتمد توصيفُها من وجهة نظر الكاتب على كيفية النظر فى الوقائع وتفسيرها. بأى حال، من الواضح أنّ استمرارية الأندلس حقيقية، فريدة من نوعها، لا تضاهيها أى استمرارية أخرى، ولا تقبلُ بطبيعة الحال أى مقارنة محتملة مع غيرها من الوقائع المشابهة المفترضة، إن لجهةِ طابعها الهجين الملاصق والمتّحد بها: وهو الطابع الإسبانى/العربى، الإسبانى/الإسلامى، وإن لجهة ما ينتج من علاقات تضمينية متعدّدة ومعقّدة، ومنها تلك السياسية، والتى تُعدّ مهيمنة وفريدة من نوعها فى حالاتٍ كثيرة.
إنّ غرناطة كما قصر الحمراء لا يشكّلان بالنسبة إلى العربى مجرّد موضوع للوصف، بل حافزاً لا يُضاهى للتأمّل وإثارة الأحاسيس الجماعية والتناقضات، وتكتسب غرناطة، غرناطة النصرية تحديداً، وهى التى شكّلت نهايةَ الأندلس الإسبانية الرسمية، بُعداً رمزياً مهمّاً ومؤلماً فى الخيال والوجدان العربيّين والإسلاميّين، بُعداً مرتبطاً ارتباطاً مباشراً بواقعة التصفية الجذرية. ويتجلّى البعدُ المذكور بقرابته مع العنصر العقائدى والسياسى، ما يتيح بسهولة التعبير عن حساسية مفرطة، ويحدّ بدرجة كبيرة من عمل آليّات المنطق أيضاً، وصولاً إلى الحدّ من فعاليّة التحليلات والتقويم.
يرى مونتابيث أنّ الأندلس هى واقع وإرث مُشترك، واقع قد وُجدَ، لكنّه لم يكفّ عن الكينونة والوجود بوصفه ماضياً لم ينطفئ، ونهاية لها استمراريتها. فالنظرة إليه وتفسيره على هذا الأساس يُشكّلان ضرورة فكرية قبل كلّ شيء. ورأى أنّ هناك ضرورة لإرساء التواصل ما بين الثقافات والإقرار بالبصمة العربية الإسلامية فى الثقافة الإسبانية. فالأندلس هى واقع مشترك بين العرب والإسبان، ومن الضرورى إرساء الحوار ما بين المسيحية والإسلام، فالغرب الأوروبى هو حاجة الشرق العربى الإسلامي، والعكس صحيح.
بالنّسبة إلى الخيال الإسبانيّ، تعكسُ غرناطة الواقعَ الأندلسي، الإسبانى العربى بشكلٍ خاصّ، لكنّها تمثّلُ الواقعَ المذكور بميزةٍ مُضافة لا تخلو من الأهميّة والدلالة:غرناطة التى تمثّلُ الكيانَ الأندلسى الأفريقانيّ. بالنسبة إلى الإسبانيّ، شكّلت أفريقيا، والمغرب حصرياً، امتداداً غير محدود. فى هذا السياق، فإنّ عبارة مملكة غرناطة الموريسكيّة تشير إلى غرناطة الأندلسيّة. ومع أنّ البصمة المغربية الأفريقية فى الأندلس تتّسمُ بأهميّةٍ فى المجال المجازى وتضطلع بدور فى الحقل الأدبى أو الفنّي، وفى النتاجات المميّزة والساحرة الجمال، غير أنّها قد شكّلت بالنسبة إلى الخيال الإسبانى الخطرَ الداهم والمباشر، إذ لطالما أرهبَ "المدُّ والجزر" الأفريقى الشمالى الجماعاتِ الإسبانية فى لا وعيها، ولا يزال حتى اليوم.
ويتطرّق المؤلّف أيضاً إلى مسألة طرد الموريسكيين وتهميشهم، ويلقى الضوء على غياب العنصر الإسلامى الأندلسى فى أعمال سرفانتس. لقد اهتمّ مونتابيث بالاستعراب الإسبانى واستعرض عدداً من الدراسات التى تناولت الأدب العربي، وهو يُنهى تأمّلاته بضرورة وضع الأندلس فى موقعها. فالواقع الأندلسى ليس بالفقّاعة التاريخية العابرة أو بالمادّة الجامدة أو المُعلّقة، أو بالظاهرة المحكوم عليها بالعزلة، إنّه مرجع أساسي، قلْ إنّه نموذج عن التأثير فى التاريخ، وهو أفق لا يعرف حدوداً.