كيف سيكون العالم الآخر، شكل الوقوف أمام الله يوم القيامة، كل إنسان يسأل نفسه، هو من أهل الجنة أم من أهل النار، وكيف سيكون حسابه نتيجة أفعاله فى الحياة الدنيا، هذا ما حدث مع الروائى العالمى نجيب محفوظ ولكنه لم يتخيل نفسه بل تخيل حكام مصر على مدى العصور أمام العرش الإلهى، وفى إطار ما أثاره الدكتور سيد القمنى خلال تصريحاته الأخيرة حول أن الملك مينا ليس موحد القطرين، نصطحب القارئ فى رحلة مع خيال صاحب نوبل.
الملك مينا، موحد القطرين، وأحد أهم ملوك مصر القديمة، ورغم وجود جدل واسع حول هويته، لكن لا أحد ينكر دور الملك القديم، فى تكوين الدولة المصرية، منذ آلاف السنين، ولعل هذا ما دار فى مخيلة أديب نوبل، عندما تخيل شكل محاكمة الملك مينا على أفعاله فى نهاية العالم، وكيف كان مصيره.
يقول نجيب محفوظ فى روايته "أمام العرش: حوار مع حكام مصر من مينا إلى السادات"، والصادرة فى طبعتها الأولى عام 1983، عن مكتبة مصر للنشر والتوزيع.
انعقدت المحكمة بكامل هيئتها المقدسة فى قاعة العدل، بجدرانها العالية المنقوشة بالرموز الإلهية وسقفها المذهب تسبح فى سمائه أحلام البشر.
أوزوريس فى الصدر على عرشه الذهبى، إلى يمينه إيزيس على عرشها، وإلى يساره حورس على عرشه، وعلى مبعدة يسيرة من قدميه تربع تحوت كاتب الإلهة مسندا إلى ساقيه المستبكتين الكتاب الجامع، وعلى جانبى القاعة صفت الكراسة المكسوة بقشرة من الذهب الخالص تنتظر من سيكتب لهم الخلاص من القادمين.
وقال أوزوريس: قضى على البشر منذ قديم بأن تمضى حياتهم على الأرض معهم عند عبور عتبة الموت، كالظل تتبعهم حاملة الأفعال والنوايا، وتتجسد فوق أجسامهم العارية. وعقب حوار طويل اتفقت كلمة على أن هذه الساعة هى الساعة الفاصلة، وهى المحكمة تنعقد من أجل سياحة طويلة فى الزمن.
أومأ أوزوريس إلى حورس، فصاح الشاب بصوت جهورى: الملك مينا.
دخل من الباب فى أقصى القاعة رجل متلفعا بكفنه، عارى الرأس حافى القدمين، وأخذ يقترب من العرش بجسمه القوى وملامحه الواضحة حتى وقف على بعد ثلاثة أذرع منه فى خشوع كامل.
أومأ أوزوريس إلى تحوت كاتب الآلهة فراح يقرأ من الكتاب: أعظم ملوك الأسرة الأولى، حارب الليبين وانتصر عليهم، هاجر مصر السفلى وضمها إلى مملكته الجنوبية أعلن نفسه ملكا على مصر كلها، وتوج رأسه بتاج مزدوج، حول مجرى النيل، وأنشأ مدينة منف فى الفراغ المتخلف عن ذلك.
قال أوزوريس مخاطبا مينا: هات ما عندك.
فقال الملك مينا: لخص تحوت كاتب الآلهة حياتى فى كلمات فما أسهل الكلام وأشق العمل.
فقال أوزريس: لنا رؤيتنا فى تقييم الرجال والأفعال فلا تبدد الوقت فى الثناء على نفسك.
فقال الملك مينا ورثت مملكة الجنوب عن أسرتى، وورثت معها حلما كبيرا طالما راود رجالها ونساءها وهو تطهير البلاد من الغرباء، وخلق وحدة أبدية تضم بين جناحيها مملكتى الجنوب والشمال.
وكان صوت عمتى أوز أقوى محرك لإشعال ذلك الحلم الكبير، كانت ترمقنى وتقول: أتقضى عمرك فى الأكل والشرب والصيد؟. أو تقول بكبرياء: لم يعلمنا أوزوريس الزراعة لتكون مناسبة للاقتتال حول توزيع ماء الفيضان..
قلت لزوجتى المحبوبة إننى أشعر بجذوة تستعر فى صدرى ولن تبرد حتى أحقق الحلم، ووجدتها زوجة ملكية رائعة فقالت بحماس: لا تدع الليبين يهددون عاصمتك ولا تدع الناس يمزقون الأرض التى وحدها النيل.
وانكببت على تدريب الرجال الأشداء وصليت إلى الآلهة مستوعبا الرضا والنصر، حتى تحقق على يدى الحلم الذى طالما راود أبائى وأجدادى.
فقال أوزوريس: أزهقت أرواح الليبيين مائة ألف!
- كانوا المعتدين يا مولاى.
- ومن أرواح المصريين شماليين وجنوبيين مائتى ألف.
- راحوا فدية للوحدة، ثم حل الأمن والسلام وتوقف نزيف الدم الموسمى من جراء النزاع حول مياه النيل.
فسأله أوزوريس: لم لم تقنع قومك بالكلمة قبل اللجوء إلى السيف؟
رد مينا: فعلت ذلك مع جيرانى، وانضم بعضهم دون قتال ثم حقق السيف فى أعوام ما لم تكن تحققه الكلمة فى أجيال.
- يقدم كثيرون هذا المنطق مداراة لإيمانهم بالعنف.
فقال مينا بحرارة: استحوذ على مشاعرى مجد مصر وأمنها.
- ومجدك الشخصى أيضا.
فرد مينا بتسليم: لا أنكر ذلك ولكن الخير عم البلاد.
- وكان لأسرتك وأعوانك أوفى نصيب منه وللفلاحين الحد الأدنى.
- مضى أكثر عهدى فى القتال والبناء، لم أنعم بحياة القصور ولم أهنأ بلذيذ الطعام والشراب، لم أمس من النساء إلا زوجتى، وكان لابد من مكافأة الأعوان على قدر أعمالهم.
طلبت إيزيس الكلمة، ثم قالت: مولاى يحاكم بشرا لا آلهة، وحسب هذا الرجل الشجاع، أنه زهد فى النعيم والكسل فطهر البلاد من الدخلاء، ووحد مصر، فأطلق قوتها الكامنة وكشف خيراتها المطمورة، ووفر للفلاحيين الأمن والسلام، إنه ابن أعتز ببنوته.
وصمت أوزوريس قليلا، ثم قال: أيها الملك اتخذ مجلسك على أول كرسى فى الجناح الأيمن.
فمضى الملك مينا إلى كرسيه مدركا أنه أصبح من أهل النعيم فى العالم الآخر.