واحدة من الثورات التى تعيش دائما فى ذاكرة المصريين، لما تحمله من روح للوحدة الوطنية واصطفاف الشعب المصرى صفا واحد ضد الاحتلال البريطانى، إنها ثورة 1919، تلك الثورة التى تزعمها الزعيم الراحل سعد زغلول، ليس لقيادته صفوف الجماهير، لكن لموقفه المناضل، الذى دفع سلطات الاحتلال الإنجليزى إلى نفيه إلى جزيرة مالطا هو وزملائه على شعراوى وعبد العزيز فهمى.
وتمر اليوم الذكرى المئوية على انطلاق ثورة 1919 م، والتى انطلقت فى يوم الأحد 9 مارس، وشهدت خروج مظاهرات من مدرسة الحقوق، تبعها طلبة للعديد من المدارس العليا، قبل أن تنضم إليهم الجماهير، وتستمر لعدة أيام.
الزعيم الوطنى الراحل سعد زغلول، أحد الزعماء الذى أثروا فى شخصية الأديب الكبير نجيب محفوظ، ودائما ما تحدث صاحب نوبل فى الآداب لعام 1988 م، على حبه وانتمائه لهذه الثورة الشعبية العظيمة، وتقديره لدور زعيم ومؤسس حزب الوفد المصرى، فى العديد من أرائه وكتاباته، ولعل دور الزعيم الراحل الذى أدى لأندلاع الثورة، ذلك ما دار فى مخيلة أديب نوبل عندما تخيل شكل محاكمة سعد زغلول على أفعاله فى نهاية العالم، كيف كان يرى أديب نوبل مصير الزعيم الكبير، وكيف رأى مصيره أمام العرش؟
يقول نجيب محفوظ فى روايته "أمام العرش: حوار مع حكام مصر من مينا إلى السادات"، والصادرة فى طبعتها الأولى عام 1983، عن مكتبة مصر للنشر والتوزيع.
"انعقدت المحكمة بكامل هيئتها المقدسة فى قاعة العدل، بجدرانها العالية المنقوشة بالرموز الإلهية وسقفها المذهب تسبح فى سمائه أحلام البشر.
أوزوريس فى الصدر على عرشه الذهبى، إلى يمينه إيزيس على عرشها، وإلى يساره حورس على عرشه، وعلى مبعدة يسيرة من قدميه تربع تحوت كاتب الإلهة مسندا إلى ساقيه المستبكتين الكتاب الجامع، وعلى جانبى القاعة صفت الكراسة المكسوة بقشرة من الذهب الخالص تنتظر من سيكتب لهم الخلاص من القادمين.
وقال أوزوريس: قضى على البشر منذ قديم بأن تمضى حياتهم على الأرض معهم عند عبور عتبة الموت، كالظل تتبعهم حاملة الأفعال والنوايا، وتتجسد فوق أجسامهم العارية. وعقب حوار طويل اتفقت كلمة على أن هذه الساعة هى الساعة الفاصلة، وهى المحكمة تنعقد من أجل سياحة طويلة فى الزمن.
فقال أوزوريس مخاطبا الجميع:
- أعمال هذا الزعيم مدونة في الكتاب لمن يريد أن يطلع عليها، ولكنا في هذه المحكمة لا نناقش إلا الأعمال الفاصلة.
ثم خاطب سعد قائلا:
- زعم خصومك أن الثورة قامت وأنت في المنفى وأنك لم تفعل شيئا لإشعالها بل إنك دهشت لقيامها كحدث غير متوقع، فما قولك في ذلك؟
فقال سعد زغلول:
- كانت حال البلاد تدعو لليأس، وأعترف بأنني دهشت لقيام الثورة كما دهش الزعيم السابق لي وهو محمد فريد ولكني لم أقصر في تهيئة الجو لها بالخطابة لدى كل مناسبة والاجتماع بالناس في بيتي وفي دعوة الناس في الريف والمدن لتأييدي في موقفي مما عبأ الشعور القومي،والثورة قامت احتجاجا على نفيي فكان شخصي في الواقع هو مشعلها المباشر.
فقال أبنوم:
- الموقف الخطير يتطلب عادة سلوكا معينا والزعيم القادر هو من يستطيع أن يكون القدوة لهذا السلوك، وقد كان الموقف يحتاج إلى التضحية، فهي أقصى ما يستطيع شعب أعزل أن يقدمه حيال قوة قاهرة، ولما تحدى سعد العدو واضطره إلى نفيه أعطى هذه القدوة المطلوبة ففعل الشعب مثله وقامت الثورة، ومما يشهد لسعد بالعظمة أنه أقبل على التضحية وهو يائس من ثورة تحميه أو تدافع عنه فكانت تضحيته كاملة؛ شجاعة نبيلة لا أمل لها في أي نوع من النجاة، ولو كان يأمل في ثورة لقلل ذلك درجة من ضخامة تضحيته..
فقال أوزوريس:
- وقيل أيضا إن تعصبك لزعامتك هو ما اضطر العقلاء من معاونيك على الانشقاق عليك، فما قولك في ذلك؟
فقال سعد زغلول:
- المسألة أنني اندمجت في الثورة وآمنت بها ووجدت فيها ضالتي التي كنت أبحث عنها طوال حياتي، أما العقلاء فقد كرهوا الثورة وخافوها وقنعوا بالحلول الزائفة، كانـوا ذوي مـال وخبـرة وحنكة ولكن وطنيتهم لم تكن خالصة كما كان إيمانهم بالشعب معدوما..
فقال أوزوريس:
- وقال بعض أعوانك إنه كان يجب أن تبقى على رأس الثورة ولا تقبل رياسة الوزارة؟
فقال سعد زغلول:
- كانت وزارتي امتدادا للثورة على المستوى الرسمي..
فقال أبنوم:
- كنت أفضل أن تأخذ برأي أولئك الأعوان!
وهنا قالت إيزيس:
- لتبارك الآلهة هذا الابن العظيم البار الذي برهن على أن شعب مصر قوة لا تقهر ولا تموت.
وقال أوزوريس:
- إنك أول مصري يتولى الحكم منذ العهد الفرعوني، وتوليته بإرادة الشعب؛ من أجل ذلك أهبك حق الجلوس بين الخالدين من أجدادك حتى تنتهي المحاكمة، ثم تمضي بسلام إلى محكمتك مصحوبا بتزكيتنا وصادق أمانينا.
واتخذ سعد زغلول مجلسه بين الخالدين في قاعة العدل".