صدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب فى سلسلة تاريخ العرب كتاب "الصلات الحضارية العربية فى العصور القديمة" وهو من تأليف الدكتور فتحى الحداد، ينطلق الكتاب من أن شبه الجزيرة العربية عرفت عند الجغرافيين العرب بجزيرة العرب، وقد ساعدت ضخامة الكتلة الصحراوية لشبه الجزيرة على النقاء الجنسى واللغوى لأهلها ومناطقها الوسطى بخاصة إلى حد نسبى كبير، ويرجح انتماء سكان شبه الجزيرة العربية فى جوهرهم إلى سلالة بشرية متجانسة.
وتميزت شبه الجزيرة العربية بدفع أغلب قبائلها إلى التحركات الداخلية من منطقة إلى أخرى بين كل حين وآخر، ثم دفعها إياهم إلى الهجرات الكبيرة إلى ما جاورها من مناطق الهلال الخصيب والشام ومصر بين كل حين طويل وآخر، وقد تمثلت دوافع التحركات الداخلية لقبائل شبه الجزيرة فى تفرق موارد الماء، وتغير مناطق العشب والرعي، وتسابق القبائل إلى استغلال تلك الموارد، يضاف إلى هذا كثرة المنازعات والحروب الداخلية التى كانت تغذيها الروح القبلية، واضطرار البعض إلى البحث عن مواطن مستقرة آمنة. وتمثلت عوامل دفع الهجرات الخارجية فى الجفاف الطبيعي، واشتداد المنازعات على الماء والمرعى، وضعف الممالك والإمارات بعدما أصابها من قحط بيئي.
كشفت دراسة الحداد ظهور أسماء لأجانب من مختلف أنحاء العالم فى نقوش جنوب شبه الجزيرة العربية ويعود ذلك لأسباب اقتصادية وثقافية وسياسية ودينية. ومع الاستقرار الذى تحقق بفضل استفادة أبناء جنوب شبه الجزيرة العربية من موقعهم ومواردهم، وبراعتهم فى التجارة والاتصال الخارجى وتوجههم نحو العمران بدأت بوادر الاتصال الخارجى الذى تم نتيجة لهذه الظروف كأمر تحت التحكم والاختيار من قبل أهل جنوب شبه الجزيرة العربية أنغسهم فى أغلب الأحيان. حيث اتصلوا بمن أرادوا وسمحوا لدخول بلادهم لمن شاءوا وشرعوا القوانين والقواعد لدخول من رغبوا فى الدخول إلى بلادهم، وتمثلت الجهات المتصلة من الخارج والتى ظهرت فى نقوش المسند ممثلة فى دول وأفراد. فكانت الدول الكبرى التى اتصل بها اليمنيون فى أمور تجارية تصديرًا لما ملكوا من سلع تجارية هامة- وخاصة تجارة البخور (اللبان) الذى سيطروا على أجود أنواعه- واستيرادًا لما احتاجوا إليه من دول العالم القديم، وظهرت فى هذا الشأن أسماء لدول كبرى كمصر وبلاد آشور، وبلاد الشام، والهند، واليونان، ومراكز حضارية كثيرة انتشرت فى مناطق شه الجزيرة العربية وفى أجوارها. وكان ذكر هذه البلاد لأسباب تجارية سلمية خالصة حتى أن منها وفودًا شاركت فى مناسبات يمنية مهمة كحضورها لاحتفالات تتويج الملوك، وكان منها أشخاص استقدمهم اليمنيون لتنفيذ أعمال فنية للملوك كصنع التماثيل التى اختاروا لهيئاتها ظهورًا ذو تأثيرات مختارة عن رغبة.
وبعد هذا الاستقرار الكبير والشهرة العالمية للتجارة بأهم سلع العالم القديم ظهرت أطماع دول من العالم القديم وازدادت رغبتهم فى السيطرة على جنوب شبه الجزيرة العربية. فظهرت فى النقوش اليمنية بوادر الاحتكاكات بقوى أجنبية سبقتها حملات عسكرية تأديبية للمناطق المجاورة والتى بدأ تحريضها من قوى خارجية، تحت إغراءات مختلفة واستخدمت حتى الأديان السماوية فى هذا الأمر. وكان الأحباش هم الأكثر ظهورًا فى نقوش المسند، حتى تمكنوا من احتلال اليمن عام 525م. وكثرت النقوش التى تحدثت عن الأجانب سواء ما دونها الأجانب أنفسهم بعد تمام سيطرتهم، أو تلك النصوص الوطنية التى تحدثت عن مقاومة هؤلاء الأجانب.
وعلى أى حال تناولت النقوش اليمنية أسماء أجنبية حبشية، وبيزنطية، وفارسية، وحكام أجانب، وأمراء لمناطق من داخل شبه الجزيرة العربية، وتناولت النقوش أيضًا ذكر لعمال، وصناع، وفنانين، وزوجات أجنبيات لهم حقوق المواطنة بنص القانون اليمني، وذكرت النقوش جماعات ذات أصول شمالية احتفظوا فى نقوشهم بذكر معبوداتهم الشمالية كاللات والعزى، ثم ذكرت النقوش جماعات دينية جديدة ظهرت قليلة فى بادئ الأمر كأقليات من اليهود وجماعات مسيحية ظهر بعدهما صراعات سياسية كبيرة على أرض اليمن القيم، وبدأت تظهر فى النقوش أسماء تدل على هذه الديانات وذكر للديانات السماوية ثم بدأ ظهور تنافس دينى بين أتباع المسيحية وأتباع اليهودية.
وعلى امتداد التاريخ اليمنى القديم كان مبدأ الأخذ والعطاء فى المجال الثقافى مستمرًا فكان ظهور الكثير من التأثيرات الخارجية فى الآثار اليمنية فظهرت تأثيرات عالمية تأثرت بالفنون المصرية، والهندية، واليونانية، والرومانية، ولم يفارقها غالبًا خصوصية يمنية رغم ذاك الانفتاح الكبير.
بين الحداد فى دراسته أنه نشأت صلات قوية بين شمال شرق أفريقيا متمثلة فى مصر والمناطق الحضارية، التى ازدهرت فى شمال غرب شبه الجزيرة العربية، (المدينيين، والأنباط، التيمائيين، واللحيانيين)، وقد مثلت شبه جزيرة سيناء جسرًا للانتشار الحضارى بين مصر وشبه الجزيرة العربية، حيث مر عبرها الطريق التجارى الشهير الذى أطلق عليه المؤرخون اسم (طريق الذهب والبخور)، إشارة إلى أهم السلع التى كانت تنتقل عبر هذا الطريق، الذى كان يسير بمحاذاة الساحل الآسيوى للبحر الأحمر، فى مناطق الظهير الممتدة وراء هذا الساحل ويمر بالمحطات التجارية التى قامت على جوانب هذا الطريق فى الحجاز واليمن. فالواقع أن شبه جزيرة سيناء كانت منذ أقدم العصور بمثابة نافذة للحضارة المصرية القديمة، لارتياد المصريين القدماء لها منذ أقدم عصور التاريخ المصرى القديم، فقد كانت مناجمها الغنية بالنحاس تجتذب اهتمام الفراعنة فكانوا يرسلون البعثات التعدينية إليها لاستخراج النحاس من وادى (مغارة) فى أول الأمر. ثم اجتذبت مناجم الفيروز بها اهتمامهم بعد ذلك، فكانوا يرسلون البعثات إلى منطقة سرابيط الخادم، (الواقعة إلى الشمال من وادى مغارة)، حيث توجد أغنى مناجم سيناء بهذا الحجر شبه الكريم. وقد شهد عصر الدولة الوسطى- وخاصة عصر الأسرة الثانية عشرة (ما بين القرنين العشرين والثامن عشر ق.م)- نشاطًا تعدينيًا واسع النطاق وخاصة لاستخراج الفيروز من سرابيط الخادم- وكان من نتائج هذا النشاط أن أنشئ معبد مصرى فى هذه المنطقة لعبادة الإلهة (حتحور)، التى اعتبرها المصريون الإلهة الحامية لهذه المنطقة، وأطلقوا عليها لقب (حتحور نبت مفكات)، أى حتحور سيدة (ربة) الفيروز، وقد نشأ عن التوسع المصرى فى استغلال مناجم الفيروز فى عصر الأسرة الثانية عشرة، أن احتاج المصريون إلى مزيد من الأيدى العاملة للعمل فى المناجم، رغم ضخامة أعداد البعثات المصرية فى ذلك العصر، (حيث بلغ عدد أفراد إحداها 734 رجلاً)، وشكل أهل سيناء همزة الوصل فى انتقال التأثيرات الحضارية المصرية إلى سائر أنحاء شبه الجزيرة العربية منذ أقدم العصور التاريخية.
إلى جانب الدور الحيوى الذى لعبته شبه جزيرة سيناء، قامت موانئ البحر الأحمر بدور هام فى التجارة شرق أفريقيا وحضارات شبه الجزيرة العربية، وأسهمت فى التأثير الحضارى بين بلدان المنطقة منذ العصور المبكرة.
وفى أزمنة لاحقة زاد الاهتمام المصرى فى عصر البطالمة مع شبه الجزيرة العربية، وأقام بطليموس الثانى فيلادلفوس بعض الموانئ على الساحل المصرى للبحر الأحمر فى أرسينوى (السويس)، وميوس هورموس (أبو شعر قبلي)، وفيلوتيرا (مرسى جاسوس)، وبيرنيكى تروجوديتيكا (مدينة الحراس)، وكانت هذه الموانئ متصلة بقفط، وأبو للونوبليس ماجنا (إدفو)، على النيل بطرق يقوم على حمايتها حراس لمراقبة الطرق وتأمين قوافل التجارة الشرقية.
وعلاوة على التواصل والالتقاء فى شبه جزيرة سيناء، عاشت فى مصر جماعات من شبه الجزيرة العربية، وتنقلت فى سبيل أنشطة صناعية وتجارية مختلفة، فعلى سبيل المثال انتشرت جماعات من الأنباط ومن ثمود، دلت عليها النقوش النبطية والثمودية، التى انتشرت فى شبه جزيرة سيناء، وذكر (الروسان) أنه كان هناك فرسان من الثموديين فى مصر فى القرن الخامس الميلادي، ظهروا من بين المحاربين الرومان.
كما انتشرت نقوش معينية أيضًا فى شبه جزيرة سيناء خلفها تجار معين. وقد كان المعينيون معروفين فى مصر منذ أمد طويل قبل الحكم الروماني، وهناك نقش يشير إلى العلاقات التجارية بين معين ومصر فى القرن الرابع قبل الميلاد، وقد كان أحد نتائج حملة فلادلفوس على شبه الجزيرة العربية، هو إرساء علاقات طيبة مع مملكة معين، وهى علاقات نمت وازدادت بعد هذه الحملة. ومنذ عصور مبكرة ظهرت فى مصر صور كثيرة للأجانب، وكان من بين تلك الصور مناظر لآسيويين لم يفرق فيها الفنان المصرى القديم بين السمات الشخصية لمختلف الأفراد الممثلين فى المنظر، وإنما اهتم بالخصائص العامة للجنس البشرى، المقصود التعبير عنه دون الاهتمام بالفروق الفردية.