مصر لها تاريخ عظيم، يعترف به الأعداء قبل الأصدقاء، والتاريخ القبطى جزء أساسى من التكوين المصرى، وقد كان هذا التاريخ حافلا بكثير من الحكايات والقصص والشخصيات، منها ما يتعلق بالبابا أثناسيوس البابا رقم 20 لكنيسة الإسكندرية، الذى تمر اليوم ذكرى رحيله فى سنة 373 ميلادية.
ومن خلال عدد من المواقع وبعض الكتب منها (الشهادة لألوهية المسيح، المسيح فى رسائل القديس أثناسيوس، ضد الوثنيين) يمن التوصل إلى سيرة مختصرة للبابا أثناسيوس:
الميلاد والصراع
لا يعرف أحد بالتحديد متى ولد أثناسيوس بالضبط لكنه فى نحو عام 295م، فى مكان ما قرب مدينة الإسكندرية، اشتهر بصراعه ضد الآريوسية، نسبة إلى آريوس السكندرى.
وشاعت عن مرافقة أثناسيوس الدائمة بأسقف الإسكندرية، ألكسندروس، رواية مفادها أنه فيما كان الأسقف، يوماً، يطل على البحر، لاحظ، فى المدى المنظور، على الشاطئ، حفنة من الأولاد يلعبون، كان واحد منهم يقف فى الماء فيما كان رفاقه يتقدّمون واحداً واحداً، فيصبّ عليهم الماء وينصرفون، فأخذ الأسقف يتساءل: ترى ماذا يفعلون؟ وبدافع الفضول أرسل فى طلب الولد وسأله ماذا يعمل؟ لماذا يصبّ الماء على رؤوس الأولاد الآخرين؟ فأجابه: أعمّدهم!
كان أثناسيوس، أسمر اللون، نحيف البنية، قصير القامة، معقوف الأنف، صغير الفم، ذا لحية قصيرة محمرّة وبشرة تميل إلى السواد وعينين صغيرتين، وقد اعتاد أن يمشى بانحناءة بسيطة إلى .
فى سنة 318م، وبناء لطلب ألكسندروس، كتب أثناسيوس، وهو بعد فى أوائل العشرينات من عمره، مقالتين إحداهما ضدّ الوثنيّين والأخرى بشأن تجسّد كلمة الله، وحدث فى السنة 319 أن دعا ألكسندروس إلى اجتماع لكهنته عرض فيه لوحدة الآب والابن والروح القدس فى الجوهر، فلم يرق كلام الأسقف لـ آريوس، الذى اعترض قائلاً:
"إذا كان الآب قد ولد الابن فلا بد من أن يكون المولود ذا بداءة فى الوجود، وهذا معناه أنه كان هناك وقت لم يكن فيه الابن موجوداً. ومعناه أيضاً أن الابن اقتبل جوهراً من العدم"، قول آريوس هذا استتبعه اعتبار الابن دون الآب ولو سما على الإنسان، ومن جوهر غير جوهر الآب، وأن دوره بين الله والإنسان لا يتعدّى دور الوسيط. وكل ما أُسبغ عليه من تسميات، كالسيّد والمخلّص والإله، إنما أُسبغ عليه مجازاً، من باب التوسّع.
واتسع الصراع، حتى بلغ أصداء الإمبراطور قسطنطين فتنبّه وتخوّف، ولم يدرِ تماماً ما الذى كان القوم يتجادلون فى شأنه، استعان ببعض أصدقائه ومستشاريه العارفين أمثال هوسيوس، أسقف قرطبة، وبعد التداول معهم استقرّ رأيه على الدعوة إلى مجمع يضمّ أساقفة المعمورة يكون دورهم، بصورة أساسية، أن يحدِّدوا له موقف الكنيسة الجامعة من المسائل المطروحة وهو يلتزمه ويكفل فرضه بالقوّة، تقرّر أن يكون مكان الاجتماع مدينة صغيرة تدعى نيقية، وهى إزنيق الحديثة، فى القسم الشمالى من آسيا الصغرى.
فى مايو 325 عرض آريوس أفكاره، فتصدّى له الفريق الأرثوذكسى، وكان أثناسيوس الأبرز فى الردّ على آراء آريوس والتصدّى لحججه، واحتدم الجدال أكثر، وفى النهاية حكم المجمع بنفى آريوس، وتبنّى قسطنطين قرارات المجمع وأصدر قراراً قضى بحرق كتب آريوس وحذّر من يقتنيها سراً ويروّج لها بالموت.
لكن الأمر لم ينته..
إثر انفضاض مجمع نيقية، عاد ألكسندروس الإسكندرى إلى دياره فسام أثناسيوس كاهناً وسلّمه مقاليد الإرشاد والوعظ وشرح تعاليم المجمع النيقاوي، ثم بعد ثلاث سنوات رحل ألكسندروس (328) فاختير أثناسيوس ليحلّ محلّه، كان فى الثلاثين من عمره، والبعض اعتبروه متصلباً قاسياً تنقصه المرونة فى التعاطى مع الآخرين.
أثناسيوس على كرسى الكنيسة
فيما كان القديس أثناسيوس يتولى الكنيسة عفى قسطنطين عن آريوس وسمح له بمزاولة نشاطاته من جديد، إزاء هذا الموقف الإمبراطورى المفاجئ، كان رد أثناسيوس فى خطاب إلى الإمبراطور "من المستحيل للكنيسة أن تستعيد من يقاومون الحقيقة ويشيِّعون الهرطقة وقد سبق لمجمع عام أن قطعهم"، وبالطبع استاء قسطنطين لأنه ظنّ أن كلمته لا ترد، وبالتالى تحول الأمر لصراع بين الإمبراطور الرومانى وبابا الكنيسة المصرية.
سنوات النفى
واحتفالا بتكريس كنيسة القيامة فى القدس، دعا قسطنطين الأساقفة إلى مجمع يُعقد للنظر فى التّهم الموجّهة إلى أثناسيوس، وكان منها تهمة بالقتل، لكن لم يثبت عليه شيء، لكن قسطنطين من جانبه أبقى على إثناسيوس أسقفاً للإسكندرية وحكم بنفيه إلى "تريف" عاصمة بلاد الغال (فرنسا) حيث بقى إلى أن رحل قسطنطين فى 337م.
فى غضون سنة من وفاة قسطنطين عاد أثناسيوس إلى كرسيّه، ومع ذلك، وفى أقل من ثلاث سنوات (340م)، عاد أثناسيوس إلى المنفى من جديد، على يد الإمبراطور قسطنديوس الذى مال إلى الآريوسية، وظل هناك لمدة 6 سنوات.
فى سنة 355 وجّهت إلى أثناسيوس تهمة التآمر على سلامة الدولة، تحت زعم أن أثناسيوس كاتب أحد الساعين إلى اغتصاب إمبراطورية الغرب، وأن رسالة، فى هذا الشأن، وقعت فى أيدى عملاء قسطنديوس، وطلب من أثناسيوس تسليم سلطاته فرفض، استمرّت محاولات إقناعه ستة أشهر من دون نتيجة، وعندما حدث اقتحام عسكرى استطاع هو الخروج إلى الصحراء.
ست سنوات قضاها أثناسيوس متخفياً، حتى موت قسطنديوس فى عام 362م. لكن بعد تولى يوليانوس، لم يسمح له بالعودة للكنيسة، بل إلى بيته، كما ترتب على ذلك خروجه من الإسكندرية إلى الصعيد.
وبعد موت يوليانوس تولّى الحكم الإمبراطور جوفيانوس الذى كان أرثوذكسياً، فثبّت أثناسيوس على كرسى الإسكندرية، لكن عمر جوفيانوس كان قصيراً، ففى أوائل العالم التالي، 364م، مات مسموماً بدخان الفحم الذى أُشعل فى غرفة نومه لتدفئته، على الأثر تولّى الحكم إمبراطوران: والنتنيانوس على الغرب ووالنس على الشرق، والنس كان آريوسياً، والفريق الآريوسى كان أضعف من ذى قبل. انتظر والنس إلى العام 367م ليبادر إلى نفى الأساقفة الأرثوذكسيين من جديد، أثناسيوس كان من بينهم، توارى مرة أخرى. وقيل اختبأ أربعة أشهر فى مقبرة، ولكن اهتاجت مصر فتوجّس والنس خيفة وأمر باستعادة أثناسيوس فعاد، هذه المرة، ليبقى، حتى رحل عام 373م، جملة سنواته أسقفاً كانت ستّاً وأربعين، قضى عشرين منها فى المنفى.