نواصل، اليوم، الوقوف مع كلام الإمام القرطبى فى تفسيره المعروف بـ"الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآى الفرقان"، ونقرأ اليوم ما قاله فى تفسير سورة "البقرة" وقول الله سبحانه وتعالى "الم".
بيان الأقوال الواردة فى الحروف المقطعة التى فى أوائل السور:
اختلف أهل التأويل فى الحروف التى فى أوائل السور، فقال عامر الشعبى وسفيان الثورى وجماعة من المحدثين: هى سر الله فى القرآن، ولله فى كل كتاب من كتبه سر. فهى من المتشابه الذى انفرد الله تعالى بعلمه، ولا يجب أن يتكلم فيها، ولكن نؤمن بها ونقرأ كما جاءت. وروى هذا القول عن أبى بكر الصديق وعن على بن أبى طالب رضى الله عنهما.
وذكر أبو الليث السمرقندى عن عمر وعثمان وابن مسعود أنهم قالوا: الحروف المقطعة من المكتوم الذى لا يفسر.
وقال أبو حاتم: لم نجد الحروف المقطعة فى القرآن إلا فى أوائل السور، ولا ندرى ما أراد الله عز وجل بها.
قلت: ومن هذا المعنى ما ذكره أبو بكر الأنبارى: حدثنا الحسن بن الحباب حدثنا أبو بكر بن أبى طالب حدثنا أبو المنذر الواسطى عن مالك بن مغول عن سعيد بن مسروق عن الربيع بن خثيم قال: إن الله تعالى أنزل هذا القرآن فاستأثر منه بعلم ما شاء، وأطلعكم على ما شاء، فأما ما أستأثر به لنفسه فلستم بنائليه فلا تسألوا عنه، وأما الذى أطلعكم عليه فهو الذى تسألون عنه وتخبرون به، وما بكل القرآن تعلمون، ولا بكل ما تعلمون تعملون. قال أبو بكر: فهذا يوضح أن حروفا من القرآن سترت معانيها عن جميع العالم، اختبارا من الله عز وجل وامتحانا، فمن آمن بها أثيب وسعد، ومن كفر وشك أثم وبعد.
وقال جمع من العلماء كبير: بل يجب أن نتكلم فيها، ونلتمس الفوائد التى تحتها، والمعانى التى تتخرج عليها، واختلفوا فى ذلك على أقوال عديدة، فروى عن ابن عباس وعلى أيضا: أن الحروف المقطعة فى القرآن اسم الله الأعظم، إلا أنا لا نعرف تأليفه منها.
وقال قطرب والفراء وغيرهما: هى إشارة إلى حروف الهجاء أعلم الله بها العرب حين تحداهم بالقرآن أنه مؤتلف من حروف هى التى منها بناء كلامهم، ليكون عجزهم عنه أبلغ فى الحجة عليهم إذ لم يخرج عن كلامهم. قال قطرب: كانوا ينفرون عند استماع القرآن، فلما سمعوا: (الم) و(المص) استنكروا هذا اللفظ، فلما أنصتوا له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أقبل عليهم بالقرآن المؤتلف ليثبته فى أسماعهم وآذانهم ويقيم الحجة عليهم.
وقال قوم: روى أن المشركين لما أعرضوا عن سماع القرآن بمكة وقالوا: (لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ) [فصلت: 26] نزلت ليستغربوها فيفتحون لها أسماعهم فيسمعون القرآن بعدها فتجب عليهم الحجة.
وقال جماعة: هى حروف دالة على أسماء أخذت منها وحذفت بقيتها، كقول ابن عباس وغيره: الألف من الله، واللام من جبريل، والميم من محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقيل: الألف مفتاح اسمه الله، واللام مفتاح اسمه لطيف، والميم مفتاح اسمه مجيد.
وروى أبو الضحى عن ابن عباس فى قوله: (الم) قال: أن الله أعلم، (الر) أنا الله أرى، (المص) أنا الله أفصل. فالألف تؤدى عن معنى أنا، واللام تؤدى عن اسم الله، والميم تؤدى عن معنى أعلم. واختار هذا القول الزجاج وقال: اذهب إلى أن كل حرف منها يؤدى عن معنى، وقد تكلمت العرب بالحروف المقطعة نظما لها ووضعا بدل الكلمات التى الحروف منها.
وقال زيد بن أسلم: هى أسماء للسور.
وقال الكلبي: هى أقسام أقسم الله تعالى بها لشرفها وفضلها، وهى من أسمائه، عن ابن عباس أيضا ورد بعض العلماء هذا القول فقال: لا يصح أن يكون قسما لان القسم معقود على حروف مثل: إن وقد ولقد وما، ولم يوجد هاهنا حرف من هذه الحروف، فلا يجوز أن يكون يمينا. والجواب أن يقال: موضع القسم قوله تعالى: (لا رَيْبَ فِيهِ) فلو أن إنسانا حلف فقال: والله هذا الكتاب لا ريب فيه، لكان الكلام سديدا، وتكون (لا) جواب القسم. فثبت أن قول الكلبى وما روى عن ابن عباس سديد صحيح. فإن قيل: ما الحكمة فى القسم من الله تعالى، وكان القوم فى ذلك الزمان على صنفين: مصدق، ومكذب، فالمصدق يصدق بغير قسم، والمكذب لا يصدق مع القسم؟. قيل له: القرآن نزل بلغة العرب، والعرب إذا أراد بعضهم أن يؤكد كلامه أقسم على كلامه، والله تعالى أراد أن يؤكد عليهم الحجة فأقسم أن القرآن من عنده.
وقال بعضهم: (الم) أى أنزلت عليك هذا الكتاب من اللوح المحفوظ.
وقال قتادة فى قوله: (الم) قال اسم من أسماء القرآن. وروى عن محمد بن على الترمذى أنه قال: إن الله تعالى أودع جميع ما فى تلك السورة من الأحكام والقصص فى الحروف التى ذكرها فى أول السورة، ولا يعرف ذلك إلا نبى أو ولي، ثم بين ذلك فى جميع السورة ليفقه الناس. وقيل غير هذا من الأقوال، فالله أعلم. والوقف على هذه الحروف على السكون لنقصانها إلا إذا أخبرت عنها أو عطفتها فإنك تعربها. واختلف: هل لها محل من الاعراب؟ فقيل: لا، لأنها ليست أسماء متمكنة، ولا أفعالا مضارعة، وإنما هى بمنزلة حروف التهجى فهى محكية. هذا مذهب الخليل وسيبويه.
ومن قال: إنها أسماء السور فموضعها عنده الرفع على أنها عنده خبر ابتداء مضمر، أى هذه (الم}، كما تقول: هذه سورة البقرة. أو تكون رفعا على الابتداء والخبر ذلك، كما تقول: زيد ذلك الرجل.
وقال ابن كيسان النحوى: (الم) فى موضع نصب، كما تقول: اقرأ (الم) أو عليك (الم).
وقيل: فى موضع خفض بالقسم، لقول ابن عباس: إنها أقسام أقسم الله بها.