بقدر ما تبرهن مصر على تجددها الإبداعى فإن إبداعات فنانيها تشكل إسهامات جوهرية على مستوى العالم، كما يتجلى الآن فى "بينالى القاهرة الدولى للفنون" الذى يستمر حتى العاشر من شهر أغسطس المقبل، بمشاركة 80 فناناً من 52 دولة حول العالم، تحت العنوان الدال "نحو الشرق"، فيما يجسد هذا البينالى بحق "لقاء الشرق والغرب".
هذا الحدث الفنى العالمى ينظمه قطاع الفنون التشكيلية بوزارة الثقافة المصرية تتوزع عروضه فى القاهرة ما بين قصر الفنون ومتحف الفن المصرى الحديث ومركز الجزيرة للفنون، هو معرض شامل لكافة أنواع الفنون، ما بين تصوير ونحت ومجسمات وفوتوغرافيا وجرافيك وفيديو وأعمال مركبة.
و"البينالى" فى الأصل كلمة إيطالية تعنى حدث يقام كل عامين، فيما تأسس بينالى القاهرة الدولى عام 1984 وكانت دورته السابقة هى الثانية عشرة وأقيمت عام 2010 ليتوقف هذا المعرض لأكثر من ثمانية أعوام فيما يعود الآن بقوة وحضور لافت.
وعبر وسائل الإعلام والمنابر الثقافية يحظى بينالى القاهرة باهتمام كبير وحفاوة واضحة بالأعمال المعروضة، بعدما غاب على مدى تجاوز الثمانى سنوات، فيما أكد "قوميسير البينالى" إيهاب اللبان أهمية الحضور العربى فى هذا الحدث الفنى المصرى – العالمى، ووصفه بأنه "أساسى وفعال"، لافتاً إلى أن مصر استقبلت دوما عبر تاريخها المديد فنانين من كل أنحاء العالم.
ومن هنا يمكن للزائر أن يرى بوضوح تعدد الأسماء والألوان والوجوه فى بينالى القاهرة الدولى الثالث عشر الذى تحول "لتظاهرة إبداعية عالمية تجسد لقاء الشرق والغرب" ويشارك فيها مبدعون من مصر وسوريا والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والكويت وفلسطين والأردن والعراق ولبنان والمغرب والجزائر وتونس وموريتانيا والكاميرون وساحل العاج وبوركينا فاسو والبوسنة وألبانيا والهند جنبا إلى جنب مع مبدعين من قبرص وكرواتيا والولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وإيطاليا وبلجيكا وأستراليا وكندا والبرازيل والأرجنتين وكولومبيا وفنزويلا.
وليس من قبيل المبالغة القول إن بينالى القاهرة الدولى بمقدوره أن يقوم بدور كبير ضمن منظومة أدوات القوة الناعمة لمصر لدعم العلاقات مع الدول الصديقة كما أنه بطبيعته "جسر للتواصل بين الحضارات وصوت أصيل للسلام العالمى وحوار الأفكار المبتكرة ويحتاجه العالم الذى يعانى من الصراعات وتتصاعد فيه توترات جديدة".
ومن الطبيعى أن تعبر أعمال فنية متعددة فى هذا البينالى عن المشهد الإقليمى والعالمى الراهن وأن تنعكس الأوضاع الإقليمية والعالمية المثيرة للقلق فى أعمال فنانين مثل الجدارية التى أبدعها المصرى عصام درويش فيما أشار إيهاب اللبان إلى أن "الشرق تأثر باضطرابات فى العقد الأخير".
ومع أنه "معرض شامل لكافة أنواع الفنون" فإن الفن التشكيلى يبدو الأكثر حضورا فى بينالى القاهرة الدولى الذى يشهد حضورا أفريقيا لافتا بينما تفاعلت عدة أعمال معروضة فى هذا البينالى مع قضايا واستحقاقات العولمة والتطورات التقنية الفائقة السرعة وتحديات انتشار ثقافة الاستهلاك وتسليع القيم ناهيك عن إشكاليات الهجرة كما انتصر فنانون بإبداعاتهم فى هذا البينالى مثل الكولومبى كاميلو ارياس لثقافة التنوع والحوار والانفتاح على الآخر.
وفيما يعد الفن التشكيلى المصرى والفنون البصرية ككل من مقومات القوة الناعمة لمصر فان حالة التوهج الإبداعى فى بينالى القاهرة الثالث عشر الذى انطلق يوم الاثنين الماضى من دار الأوبرا المصرية تثير التفاؤل حيال مستقبل الفن التشكيلى والنحت والتصوير والارتقاء بالذائقة الفنية للأجيال الجديدة فى بلد انجب فنانين تشكيليين ونحاتين ومصورين خلدتهم ذاكرة الابداع المصرية والعالمية.
وإذا كان "قوميسير البينالى" إيهاب اللبان قد دعا لتوسيع قاعدة محبى الفنون فمن الأهمية بمكان فى هذا السياق كسر النخبوية المفترضة للفنون البصرية وخاصة الفن التشكيلى لتكون لوحاته متاحة لكل المصريين تماما كما هو الأمل المنشود لتجليات ثقافية أخرى كالشعر والموسيقى والرواية ومن اجل تعميق ثقافة الحق والخير والجمال فى ارض الكنانة التى تعشق بفطرتها الطيبة كل ما هو جميل.
وكان الكاتب والأكاديمى ووزير الثقافة الأسبق الدكتور شاكر عبد الحميد قد أكد أن نجاح عناصر وأدوات القوة الناعمة ومن بينها الفنون التشكيلية يرتبط بمدى قربها من الناس فيما يبقى الأمل فى ان يتحول "بينالى القاهرة الدولى للفنون" إلى مقصد جماهيرى يعلى من ثقافة الجمال ويجسد معنى "الفن للجميع" وهو الذى يعبق بأصالة وسحر الشرق جنبا الى جنب مع اعمال تخاطب هموم الانسان المعاصر فى كل مكان بهذا العالم.
وواقع الحال أن أعمالا فنية خالدة حاضرة ليس فى المتاحف الفنية فحسب وإنما فى متاحف أخرى مثل المتحف الزراعى المصرى الذى يحوى أعمالا فنية خالدة تصور المشهد الزراعى المصرى ولوحات لفنانين عالميين إلى جانب رواد الفن التشكيلى المصرى مثل الراحل محمود سعيد والحاضر بعمله الفنى الرائد "بنات بحرى" الذى أنجزه فى باكورة القرن الماضى ويعرض فى "متحف الفن الحديث وهو أحد الأماكن الثلاثة للبينالى الحالي".
وتضم باقة الفنانين التشكيليين المصريين أسماء خالدة فى الحياة الثقافية المصرية مثل محمود سعيد وعبد الهادى الجزار ورمسيس يونان والأخوين سيف وادهم وانلى وصلاح طاهر وصلاح عبد الكريم وتحية حليم وحسين بيكار و حسن سليمان و حسن فؤاد صاحب شعار "الفن فى خدمة الحياة" والفنانة انجى افلاطون والمبدع عبد الغنى أبو العينين ناهيك عن الأستاذ عبد السلام الشريف و منير كنعان.
واللافت أيضا أن بعض أهم رسامى الكاريكاتير فى مصر مثل الراحل العظيم مصطفى حسين والفنان الكبير الراحل أحمد طوغان الذى وصف عن جدارة "بشيخ رسامى الكاريكاتير فى مصر" لهم اسهامات ابداعية مهمة فى الفن التشكيلي.
وفى البينالى الحالى يشارك سبعة من الفنانين المصريين وهم احمد البدرى احمد قاسم وحازم المستكاوى ورضا عبد الرحمن وعصام درويش ومروة عادل ويوسف نبيل فيما منحت وزيرة الثقافة الدكتورة ايناس عبد الدايم فى مستهل البينالى جوائز لعدة فنانين من بينهم المصرى احمد البدرى والعراقى صادق الفرارجى والأردنى ايمن يسرى وكانت الجائزة الكبرى من نصيب جورس ناردى ماردان.
وعالم الفن التشكيلى والنحت بات يشكل هدفا لوسائل الإعلام حول العالم التى تهتم بأخبار مثل ببيع منحوتة للفنان البريطانى الشهير هنرى مور بمبلغ 2,7 مليون دولار وهى تمثل "معالجة تجريدية" لشخص مستلق كما بيعت لوحة "رصيف السكة الحديد" للفنان ال.اس.لورى بثمن بلغ 2,5 مليون دولار كما بيعت لوحة للورى باسم "مباراة كرة القدم" فى عام 2011 بمبلغ وصل الى 5,6 مليون دولار.
وحقيقة الإسهامات المصرية المهمة فى تاريخ الفن المعاصر ناهيك عن تاريخ الفن ككل يدركها فنانون كبار حول العالم مثل الفنان الفرنسى جيرار جاروست وهو ضيف شرف فى بينالى القاهرة الدولى الحالى الذى يحظى باهتمام واضح من شخصيات عامة حرصت على مشاهدة الأعمال المعروضة وهى مسألة من الطبيعى ان تثير ارتياح رئيس قطاع الفنون التشكيلية الدكتور خالد سرور.
بينالى القاهرة الدولى فى دورته الحالية يعرض أعمالا لافتة لأسماء كبيرة مثل النمساوية بريجت موفانس التى ذاع صيتها فى العالم لاستخدامها الضوء كوسيط تعبيرى فى الفن التشكيلى بقدر مايشير أيضا لطبيعة التحولات الفنية فى العصر الرقمي.
وفيما تكشف كتابات لمثقفين مصريين كبار مثل الكاتب والأكاديمى ووزير الثقافة الأسبق الدكتور جابر عصفور عن رؤى فنية عميقة، مثل تناوله للتشابه بين فن التجريد بأعلامه "كبيكاسو وموندريان وكاندينسكى وجاكسون بولوك" وبين الموسيقى كما يبدو متحمسا "للتجريب" فان فنانا مصريا مثل حسن سليمان الذى ولد عام 1928 وقضى عام 2008 كان نموذجا مبهرا لهذه الكوكبة النادرة من المبدعين الجامعة مابين سحر الريشة والقلم وبقدر مااستحق وصفه "بأسطورة الضوء والظل" فهو صاحب قلم يعتبره بعض الكتاب من اكثر الأقلام التى تهدى المتعة للقارئ.
وإذا كان حسن سليمان قد تبنى رؤية تثق دوما فى رهانات الابداع وتجدد حيوية مصر بشبابها المبدع فها هو الواقع يبرهن على صواب هذه الرؤية..انها مصر المبدعة تتحدث عن نفسها من جديد فى بينالى القاهرة الدولي..انه لقاء الشرق والغرب على ارض الابداع وتحت سماء الدهشة وبين الوجوه الطيبة التى تعشق بفطرتها الطيبة كل ماهو جميل.