كانت حياتنا في مصر الجديدة هادئة مليئة بالحب والمرح. صباح كل جمعة نتناول الشاي الانجليزي مع الكعك الفرنسي في بهو القاعة الكبرى بأوتيل هليوبوليس بالاس، أما يوم الأحد فنذهب الى سباق الخيل بملابسنا الأنيقة والقبعات الملونة لنعيش أجواء المراهنات المثيرة مفعمين بالأمل في الفوز، وربما نلمح الملك فاروق داخل مدرجات السباق وكان حضوره يضفي على الحدث أجواء من السعادة والانبهار، وفي المساء ندخل سينما صيفي مع تناول العشاء على طاولات فاخرة أثناء مشاهدتنا الفيلم. وفي وسط الأسبوع وعندما كان ينتابنا شعور بملل نخرج مع أطفالنا لملاهي "لونا باركLuna park " و فيها بيت الرعب أو " قصر الجنون" وعربات تسير فوق قضبان على مساقط المياه، وقد كان دخولها مجانيا لكل محتفظ بتذكرة ترام، تلك المدينة الترفيهية اختفت من الوجود نهائيا وحل مكانها سينما روكسي.
في أيام الصيف الحارة أذكر أننا كنا نخرج ليلا بسيارات مفتوحة السقف لندور حول قصر البارون ونرفع أيادينا نحو السماء ونصرخ ضاحكين بصوت عال حيث لا أحد يسمعنا. وفي غروب الشمس نركب الترام من أجل النزهة فيستقبلنا كمسري أنيق المظهر مبتسما في وجوهنا وربما نفاجأ أيضا بأنه يعرف أسماءنا، كان الرجل يحيينا بثلاثة لغات ويعطينا واحدة بونبون على كل تذكرة بـ 2 مليما وفي مدة لا تذيد عن 15 دقيقة كان الترام يصل بنا إلى وسط البلد.
هليوبوليس أو مدينة الشمس كانت في ذلك الزمان حديقة خضراء كبيرة يمتزج هواؤها برائحة الفل والياسمين، في تمام الثالثة عصرا يوميا تأتي عربة تجرها الخيول لترش المياه على أسفلت الشوارع النظيف بعد كنسها، بينما تزينها على الجانبين صفوف من أعمدة الإنارة ذات الطراز الأوروبي.
تواصل السيدة هالة شكري حكيها: تزوجت في عام 1947 من مهندس يعمل في السكة الحديد وأقمنا في 2 شارع "عباس حلمي" سابقا (18إبراهيم اللقاني حاليا)، وهو العقار المشهور بعمارة "مطعم الامفتريونِAmphitryon " وهي ثاني بناية تم إنشاؤها في هليوبوليس، وتم تحريرعقد إيجار لنا مختوم باسم شركة واحات عين شمس،بمبلغ 4 جنيهات مصري شهريا.
وتتابع: كان جيراننا من أصول مختلفة، فمثلا في الشقة المجاورة لنا تعرفنا على ماريا وزوجها موظف بنك باركليز، وبمرور الوقت صرنا أصدقاء حميمين، وكثيرا ما التقينا على العشاء في" الامفتريون" حيث نطلب وجبتنا المفضلة مكرونة أسباجتي وأسكالوب بانيه مع عصير الليمون المثلج، قال لنا صاحب المطعم اليوناني الجنسية ذات مرة إن الامفتريون هو مكان (للقاء الأحبة) .. تضيف السيدة المصرية التي عاشت شبابها فترة الخمسينيات في مصر الجديدة .. حينها كان مرتب زوجي 42جنيها عشنا بها حياة كريمة.
وتواصل: "في عام 1954 قرأت إعلانا عن بيع موبيليات قصر البارون في مزاد فذهبنا على الفور إلى هناك ولحظة دخولنا اندهشنا بالقبة المحلاة بتماثيل الإله بوذا وشرفات القصر المطرزة المحمولة على تماثيل الفيلة وصعدنا بالأسانسير الخشبي بمرآته الداخلية الناصعة الذي يصل الى التراس على مهل، ومشينا فوق السجاد الفاخر وجلسنا على الأثاث المذهب ونظرنا إلى الساعة النادرة التى يقال إنها نادرة الصنع ولامثيل لها فقد كانت تدل على الأيام والشهور ودرجات الحرارة، وبجوار المطبخ لفت انتبهنا سرداب طويل يروى أنه يمتد حتى يصل لكنيسة البازيليك و شهدنا عند باب القصر الرئيسي لافتة نقش عليها " القصر من تصميم المعماري (ألكسندرمرسيل Alexandre Marcel)".
ألكسندر هذا صمم كذلك قصرا عظيما يقع في مقابل قصر البارون لكنه لم يحظ بالشهرة ذاتها وهو قصر"السلطانة ملك" وقد اختار له طراز العمارة الإسلامية الذي يبدوا جليا من خلال مئذنته، وأذكر ذات مرة تسللنا إلى داخل القصر في مغامرة مثيرة أنا وزوجي والتقطناصورا تذكارية بجوار تمثالين رائعين بالحجم الطبيعي للفنان الإيطالي "تيتو آنجليني" تحول هذا القصر بعد التأميم إلى مدرسة مصر الجديدة الثانوية بنات!
أما هناك وعلى مقربة منا ميدان الكوربة المؤسس على طراز معماري خاص عبارة عن خليط بين الأندلسي والأوروبي، وفي فترة ما كنت أعيش مع عائلتي في شارع "ابراهيم باشا" كان أبي تاجر أخشاب وقد أستأجر لنا شقة لطيفة هناك بعد أن تركنا منطقة العباسية. حينها أدمنت الجيلاتي من محل (Fortuna الحظ) وكان ذلك المحل أسفل عمارتنا بجوار محطة الترام. وأذكر أن صاحبه كان عجوزا إيطاليا، وقد حمل لي fortuna أجمل صدفة حين التقيت بحبيبي وزوجي يوسف الشوربجي لأول مرة ذات مساء برفقة أصدقائه حيث بدأ غرامنا.
وفي عام 1938 اصطحبنا والدي أنا وأخي لسينما "تريومف" بجور البيت لمشاهدة أول فيلم أجنبي مدبلج بصوت ممثلين مصريين وبالهجة العامية وكان بعنوان "جاري كوبر في نيويورك". أيضا شاهدنا بقايا جنود الاحتلال الانجليزي الذين كانوا يقيمون هناك ويتدربون صباحا فى شارع الأهرامات.
وفي أحد الأيام زرت كنيسة البازليك مع ماريا جارتي ولم يكن أحد بداخلها فرحب بنا القس وشرح لنا كيف صمم المهندس حبيب عيروط الكنيسة على الطرازالبيزنطي العريق، وأمر بفتح مقبرة (البارون مع أبنه جون) وقد أذهلني أسلوب فتحها إذ كانت تنشق الأرض عنها على طريقة أفلام جيمس بوند ليظهر قبو مستطيل يحتوي على سلم رمادي عبارة عن خمس عشرة درجة.
فى سنة 1957 بلغنا أنه يتم تصوير فيلم لعبدالحليم حافظ في شارع السباق (الحجاز حاليا) عرفنا بعد ذلك أنه فيلم الوسادة الخالية وشاهدنا البطل صلاح وهو يمسك يد سميحة البطلة بجوارالسورالحديدي لمدرجات مدينة غرناطة وعندما اقتربنا أنا و ماريا مسرعين من نجوم الفيلم ليوقعوا لنا اتوجراف لم نر أجمل من عيون لبنة عبد العزيز ولا أصدق من نظرات عبد الحليم. وتدورالأيام وتمضي السنوات السعيدة كلمح البصر.
هاجرت ماريا وزوجها عام 1962 إلى أمريكا وترك البناية الكثير من السكان اليهود والموظفين الأجانب العاملين في شركات عالمية وأزيل مضمار الخيل وصار أطلالا، وتأمم فندق هليوبوليس ليصير بعد ذلك قصرالاتحادية، وهاجر ابني الوحيد سنة 1968 إلى كندا بعد تخرجه من كلية الهندسة وتوفي زوجي وأصبحت وحيدة.
تدريجيا تغير كل شيء في هليوبوليس، شوارعها، بناياتها، وسكانها من الطبقة المتوسطة، وتحول شارع سعيد باشا إلى بيروت، وجامع عباس حلمي صار بقدرة قادر جامع جمال الدين الأفغاني وشارع البارون تنازل عن اسمه "لنزيه خليفة" وصار شارع سان استيفانو هارون الرشيد، أما مضمارالخيل تحول إلى حديقة المريلاند، ياربي حتى دورالسينما انقلبت خرابات مثل كرستال و بالاس، وحلت محل ملاعب الجولف الخضراء الشاسعة عمارات شاهقة حملت الاسم نفسه الجولف، أما كازينو تريومف الأنيق الذي ظهر في فيلم "ماليش غيرك" بطولة فريد الاطرش ورشدي أباظة حل مكانه "مطعم مؤمن" ثم تحول الى أطلال حتى الفيلم لم نعد نشاهده، انتقلت ملكيتة لشركة روتانا!
وهكذا منذ زمن تشتكي مصر الجديدة وتصرخ وتئن فقد هدمت مئات الفلل والقصورالجميلة وحلت مكانها عمارات قبيحة يسكنها أثرياء جدد من نوع مختلف لا يفهمون في الذوق ويتعاملون بشكل فج ومتعجرف معتقدين أن المال يخول لهم امتلاك كل الأشياء حتى حياة الآخرين.
وصرنا أنا وهليوبوليس لا نمتلك إلا ذكرياتنا وصورنا مع الماضي جميل".
وهكذا ظلت تتحدث هالة إلى نفسها جالسة على أطلال محطة مترو ميدان الاسماعيلية المهجورة ولا أحد من العابرين ينصت لما تقول.