تخسر كثيرا تلك الكتابة التى لا تنقلك إلى شواطئ بعيدة لم تكن تبلغها بمفردك ولا بخيالك المحض، ويخسر كثيرا جدا ذلك المؤلف والكاتب الذى لا يستطيع أن يمنحك جناحين تحلق بهما فى كل اتجاه عبر كتابته، أما الكاتب الذى يستطيع أن يفعل ذلك ويستطيع أن يهبك بكلماته ميلادا جديدا فإن الخلود هو مصير إبداعه، وهو ما فعله برهافة شديدة الشاعر والكاتب الصحفى وائل السمرى فى تجربته السردية البديعة العابرة للنوع وكتابه الذى يستعصى على التصنيف والصادر مؤخرا عن الدار المصرية اللبنانية بعنوان رئيسى هو "ابنى يعلمنى" مشفوعا بعنوان آخر فرعى يخفى أكثر مما يكشف هو "صفحات من درس الحياة والحب"، والكتاب فريد فى بابه، وجدير بأن تقف أمام ما فيه طويلا، وضعه السمرى بلغة وقعت فى منزلة بين المنزلتين الشعر والنثر وحازت ما حازت من تعبيرات المتصوفة وشطحات العارفين، وحكمة الفلاسفة ووجد العاشقين وخشوع المبتهلين، فكاتبنا تعاطى مع حدث إنجابه " ابنه / ولده " الأول تعاطيا فريدا من نوعه ، فلم يتلقه كوريث للاسم واللقب وامتداد للذرية وكحامل للجينات والصفات أو باعتبار "المال والبنون" زينة الحياة الدنيا"، بل رآه كحدث جلل أربك حسابات الكون وغير مساره والكون هنا هو كون الأب / المؤلف وعالمه الخاص والعام، إذ يمكن أن نقول إنه رآه كاكتشاف كوكب جديد أو كسقوط جرم هائل من السماء، وربما كميلاد المسيح، أو عودة المهدى، أو كانفجار بئر زمزم استجابة لعطش هاجر عليها السلام ووليدها، رأى وائل أن الرحلة التى بدأت منذ أن كان "ابنه" نطفة فى رحم الغيب إلى أن صار واقعا من لحم ودم هو حدث يعيد تفسير العالم، ويتحول عنده التاريخ أو يبدأ من جديد، وقد تجاوز وائل كل ما سجلته مشاعر الآباء من فرح وفخر وكل ما عرفته اللغة من ميراث وأدبيات تجسد بهجة الأب بولده الأول؛ وذلك بالغوص إلى آخر نقطة فى محيط ذلك الميلاد ثم الصعود إلى سدرة منتهى تلك المعجزة الكبرى، معجزة أن تنسلخ من روحك روح أخرى ولكنها أنت ومن صلبك بدن آخر غيرك هو نفسك، ليستوى بين يديك خلقا جديدا ليكون الابن / ابنك، وهو الحدث الذى تعلم وائل منه الكثير بعد أن تأمله وغاص فى فلسفته فأبصر ورأى ثم أدرك وتيقن وقطف من شجرة حكمته ما قطف ، فذاق وعرف بميلاد ابنه ميلاد النور والخير والجمال والحكمة والمحبة والعطاء اليقين وقد سجل الكاتب آثار تلك الرحلة الروحية فى عشرين درسا هم كل فصول الكتاب ومن دروس الكتاب: أن للميلاد دهشة كما للموت تماما وأن فى الأرض جنة هى الابن كما فى السماء جنة، وأن الناس نيام فإذا ما أنجبوا انتبهوا من غفلتهم.
وفى مقدمة الكتاب وقبل أن يشرع السمرى فى تسجيل دروسه العشرين وتحت عنوان " قنطرة " حاول الكاتب أن يساعد القارئ على العبور إلى جوهر الكتاب مبكرا حيث فسر جانبا من دوافع تجربته فى الكتاب وانشغاله وانجذابه بروعة الميلاد فقال ص8" آلاف القصائد كتبت للموت تحت اسم شعر المراثى أو البكائيات، آلاف اللوحات رسمت للموت ، آلاف الحكايات حيكت حول الموت.. " وقال ص9 " تجاهلنا ما تحمله لحظة الميلاد من بلاغة نادرة " .
وائل السمرى شاعر قبل اشتغاله بالصحافة وقبل أن يكون ساردا ولذا كان للمجاز والتعبير بالصورة بتنويعاتها كافة دورا كبيرا فى لغة الكتاب الذى اتكأ على الكثير من تقنيات مألوفة فى عالم الشعر منها مثلا التناص الذى لعب دورا بارزا بامتداد فصول الكتاب فى صياغة رؤية المؤلف الكلية إذ صنع السمرى عبر التناص مع الموروث على تنوعه جسرا سار فوقه بتؤدة نحو مبتغاه، ولا سيما النصوص إذ حضر النص الموروث حضورا مشعا وصل إلى حد الاشتباك مع النص الحاضر ، وكان الحضور الأبرز للنصوص المقدسة من قرآن وأحاديث نبوية مما أنتج ما يمكن أن نسميه مجازا نصا ثالثا ، والأمثلة هنا لا تعد ولا تحصى ومنها فقط نذكر قوله: ص69 " الناس نيام فإذا أنجبوا انتبهوا " ليرفع السمرى حدث إنجاب ابن وتأثيره إلى مستوى الموت كحدث جلل بما ينطوى عليه من أثر وعبرة باعتباره الحقيقة المطلقة التى لا مراء فيها والتى بتأملها قد يغير الإنسان مساره ، وقوله أيضا " اللهم لك صمت وعلى رزقك أبصرت " متناصا مع ميراث أدعية النبوة ص47 فى افتتاحية الفصل / الدرس السادس وكذلك قوله ص 105متحدثا عن ابتسامة وليده " فجاءت وكأن بها شفاء للناس " متداخلا مع قوله تعالى " فيه شفاء للناس " سورة النحل ، و قوله " تلتقيه فتشعر أن الله ثالثكما ".. والأمثلة فى هذا السياق كما قلنا لا حصر لها. وقد استطاع وائل السمرى أن يكتب ما تعجز الأمهات عن التعبير عنه تجاه وليدها ليصبح " ابنى يعلمنى" سفرا فى عشق "الولد" ومحبة الحياة وبابا فى بلاغة الميلاد وروعته.