نواصل مع المفكر العربي الكبير جواد علي (1907 – 1987) قراءة التاريخ العربي قبل الإسلام، ونتوقف هنا مع العلاقات الخارجية للعرب ونجيب من خلال كتاب "المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام" على سؤال: هل ساعد العرب الفارسى قمبيز فى احتلال مصر؟
يقول جواد على: ولما قام "قمببز" الثاني "قمباسوس" "Cambyses" بغزو مصر سنة "525 ق. م." وطلب معونة العرب، أمدوه بالجمال وبالماء، وساعدوه مساعدة كبيرة لولاها لما تمكن من الوصول إلى مصر.
ويزعم "هيرودوتس" أن "فانس" "Phanes"، الذي خان سيده فرعون مصر، فهرب منه وذهب خلسة إلى "قمبيز" وحثه على فتح مصر، أشار على الملك بأن يستعين بالعرب ليساعدوه في اجتياز الصحراء، وكان الملك يفكر في الصعوبات التي ستعترض جيوشه في قطع تلك الفيافي والقفار، ومن أهمها قلة الماء.
فلما اقتنع الملك بصواب رأي "فانس" وصدقه، أرسل رسولًا إلى ملك العرب ليتفاوض معه في هذا الأمر، فوافق العرب على تقديم المساعدات فهيئوا قِرَبًا كثيرة ملئوها بالماء، وحملوها على ظهور جمالهم حيث قدموها إلى الفرس.
ولم يشر "هيرودوتس" إلى اسم الملك العربي الذي وافق على تموين الجيش الفارسي بما يحتاج إليه في حملته على مصر بالماء، ولم يشر أيضا إلى الأرض التي كان يحكمها.
وقد يكون هذا الملك أحد ملوك النبط الذين كانوا يحكمون في أعالي الحجاز وفي الأقسام الجنوبية من الأردن وطور سيناء، وقد يكون أحد كبار سادات القبائل العربية الكبيرة في طور سيناء، حيث كان له سلطان واسع كبير على الأعراب الساكنين في هذه الأرضين.
وأشار "هيرودوتس" في معرض كلامه على تزويد العرب قمبيز بالماء، إلى وجود نهر عظيم في بلاد العرب، دعاه: "كوريس" "قوريس" "Corys"، زعم أنه يصب في "البحر الأريتري" "البحر الأرتيري" "Erythraean Sea" أي البحر الأحمر، قائلًا: إن هناك من يزعم أن ملك العرب عمل أنبوبًا من جلود الثيران والحيوانات الأخرى لنقل المياه من النهر إلى صهاريج، أمر بحفرها وعملها في الصحراء لخزن الماء فيها، وإن هناك ثلاثة خطوط من هذه الأنابيب تنقل الماء إلى مسافة اثني عشر يومًا من النهر إلى موضع هذه الصهاريج.
ولا يعقل أن يكون في بلاد العرب نهر على الوصف الذي ذكره "هيرودوتس" في ذلك العهد، كما أن الأنابيب المذكورة الممتدة إلى تلك المسافات المذكورة، هي من مخيلات القصاص الذين أخذ منهم ذلك المؤرخ خبره.
والظاهر أن الذين حدثوه عن ذلك النهر، كانوا قد سمعوا أو شاهدوا السيول التي تصب في البحر الأحمر في مواسم الأمطار الشديدة، فتصوروها أنهارًا عظيمة تجري طول السنة.
أما الصهاريج، فإنها معروفة في بلاد العرب، ولا سيما شمال العربية الغربية، تأتي إليها مياه الأمطار فتملؤها، وتغطي فتحاتها، فلا يعرف مواضعها إلا أصحابها، فإذا داهمهم عدو، سدُّوا منافذها، فلا يصل إلى مائها أحد.
والظاهر أن الذين أمدوا الفرس بالماء كانوا يأخذونه من الصهاريج المنتشرة في مختلف الأماكن، ومن هنا ظهرت أسطورة نقل المياه إليها من ذلك النهر، في ثلاثة خطوط من الأنابيب المصنوعة من الجلود.