فى مثل هذا اليوم من عام 181م، رحل آلاف الأندلسيين من قرطبة بعد فشل ثورتهم ضد حكم الأمير الحكم بن هشام، الذى بطش بالثوار وهدم منازلهم وشردهم فى الأندلس فاتجهت جماعة منهم تبلغ ما يقارب 15 ألف إلى مصر ثم ما لبثوا أن غادروها إلى جزيرة كريت سنة 212 هـ، فما هى تفاصيل الواقعة ومن يكون هذا الحاكم وما هى حكايته؟ وخلال السطور المقبلة نستعرض ذلك.
فى بداية الحكاية نستعرض سيرة الحكم بن هشام، من كتاب سير أعلام النبلاء الجزء الثامن، فيقول : هو ابن الداخل عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان بن الحكم الأموى المروانى، أبو العاص، أمير الأندلس وابن أميرها، وحفيد أميرها، ويلقب بالمرتضى، ويعرف بالربضى ، لما فعل بأهل الربض، بويع بالملك عند موت أبيه في صفر سنة ثمانين ومائة .
ويشير كتاب سير أعلام النبلاء، أن الحكم بن هشام كان من جبابرة الملوك، وفساقهم، ومتمرديهم، وكان فارسا شجاعا فاتكا، ذا دهاء وحزم وظلم، تملك سبعا وعشرين سنة، وكان فى أول أمره على سيرة حميدة، تلا فيها أباه ، ثم تغير، وتجاهر بالمعاصى.
وقال اليسع بن حزم : همت الروم بما لم ينالوا من طلب الثغور، ( فنكثوا العهد ، فتجهز الحكم إليهم حتى جاز جبل السارة - شمالي طليطلة - ففرت الروم أمامه حتى تجمعوا بسمورة، فلما التقى الجمعان نزل النصر، وانهزم الكفر، وتحصنوا بمدينة سمورة، وهي كبيرة جدا، فحصرها المسلمون بالمجانيق، حتى افتتحوها عنوة، وملكوا أكثر شوارعها، واشتغل الجند بالغنائم، وانضمت الروم إلى جهة من البلد، وخرجوا على حمية فقتلوا خلقا في خروجهم، فكانت غزوته من أعظم المغازي لولا ما طرأ فيها من تضييع الحزم، ورامت الروم السلم، فأبى عليهم الحكم، ثم خرج من بلادهم خوفا من الثلوج ، فلما كان العام الآتي، استعد أعظم استعداد، وقصد سمورة ، فقتل وسبى كل ما مر به، ثم نازلها شهرين، ثم دخلوها بعد جهد، وبذلوا فيها السيف إلى المساء، ثم انحاز المسلمون، فباتوا على أسوارها .
قال الرازي في " مغازي الأندلس ": كثرت العلماء بالأندلس فى دولته، حتى قيل: إنه كان بقرطبة أربعة آلاف متقلس متزيين بزى العلماء، فلما أراد الله فناءهم، عز عليهم انتهاك الحكم للحرمات، وائتمروا ليخلعوه، ثم جيشوا لقتاله، وجرت بالأندلس فتنة عظيمة على الإسلام وأهله، فلا قوة إلا بالله، فذكر ابن مزين فى تاريخه: طالوت بن عبد الجبار المعافرى، وأنه أحد العلماء العاملين الشهداء الذين هموا بخلع الحكم، وقالوا : إنه غير عدل، ونكثوه فى نفوس العوام، وزعموا أنه لا يحل المكث ولا الصبر على هذه السيرة الذميمة.
وأشار الرازى، إلى أن العلماء عولوا على تقديم أحد أهل الشورى بقرطبة، وهو أبو الشماس أحمد بن المنذر بن الداخل الأموى ابن عم الحكم، لما عرفوا من صلاحه وعقله ودينه، فقصدوه وعرفوه بالأمر، فأبدى الميل إليهم، والبشرى بهم، وقال لهم: أنتم أضيافي الليلة، فإن الليل أستر، وناموا، وقام هو إلى ابن عمه بجهل، فأخبره بشأنهم، فاغتاظ لذلك، وقال : جئت لسفك دمى أو دمائهم، وهم أعلام، فمن أين نتوصل إلى ما ذكرت ؟ فقال : أرسل معي من تثق به ليتحقق، فوجه من أحب، فأدخلهم أحمد فى بيته تحت ستر، ودخل الليل، وجاء القوم، فقال : خبرونى من معكم ؟ فقالوا: فلان الفقيه، وفلان الوزير، وعدوا كبارا، والكاتب يكتب حتى امتلأ الرق، فمد أحدهم يده وراء الستر، فرأى القوم، فقام وقاموا، وقالوا : فعلتها يا عدو الله، فمن فر لحينه، نجا، ومن لا قبض عليه.
فكان ممن فر عيسى بن دينار الفقيه ويحيى بن يحيى الفقيه صاحب مالك، وقرعوس بن العباس الثقفى، وقبض على ناس كأبي كعب، وأخيه، ومالك بن يزيد القاضي، وموسى بن سالم الخولاني، ويحيى بن مضر الفقيه، وأمثالهم من أهل العلم والدين، في سبعة وسبعين رجلا، فضربت أعناقهم، وصلبوا. وأضاف إليهم عميه كليبا، وأمية، فصلبا، وأحرق القلوب عليهم، وسار بأمرهم الرفاق، وعلم الحكم أنه محقود من الناس كلهم، فأخذ فى جمع الجنود والحشم وتهيأ، وأخذت العامة في الهيج، واستأسد الناس، وتنمروا، وتأهبوا، فاتفق أن مملوكا خرج من القصر بسيف دفعه إلى الصيقل، فماطله، فسبه، فجاوبه الصيقل، فتضاربا، ونال منه المملوك حتى كاد أن يتلفه، فلما تركه، أخذ الصيقل السيف فقتل به المملوك، فتألب إلى المقتول جماعة، وإلى القاتل جماعة أخرى، واستفحل الشر، وذلك في رمضان سنة اثنتين ومائتين هجريا، وتداعى أهل قرطبة من أرباضهم، وتألبوا بالسلاح، وقصدوا القصر، فركب الجيش والإمام الحكم، فهزموا العامة، وجاءهم عسكر من خلفهم، فوضعوا فيهم السيف، وكانت وقعة هائلة شنيعة، مضى فيها عدد كثير زهاء عن أربعين ألفا من أهل الربض، وعاينوا البلاء من قدامهم ومن خلفهم فتداعوا بالطاعة، وأذعنوا ولاذوا بالعفو، فعفا عنهم على أن يخرجوا من قرطبة، ففعلوا وهدمت ديارهم ومساجدهم، ونزل منهم ألوف بطليطلة، وخلق فى الثغور، وجاز آخرون البحر، ونزلوا بلاد البربر، وثبت جمع بفاس، وابتنوا على ساحلها مدينة غلب على اسمها مدينة الأندلس.
ماذا فعلوا فى الإسكندرية؟
ويكمل كتاب سير اعلام النبلاء الحديث فيقول " وسار جمع منهم زهاء خمسة عشر ألفا، وفيهم عمر بن شعيب الغليظ، فاحتلوا بالإسكندرية، فاتفق بعد ذلك أن رجلا منهم اشترى لحما من جزار، فتضاجر معه، ورماه الجزار بكرش فى وجهه، فرجع بتلك الحالة إلى قومه، فجاءوا فقتلوا اللحام ، فقام عليهم أهل الإسكندرية، فاقتتلوا ، وأخرج الأندلسيون أهلها هاربين ، وتملكوا الإسكندرية ، فاتصل الخبر بالمأمون، فأرسل إليهم، وابتاع المدينة منهم، على أن يخرجوا منها وينزلوا جزيرة إقريطش فخرجوا ونزلوها وافتتحوها، فلم يزالوا فيها إلى أن غلب عليها أرمانوس بن قسطنطين سنة خمس وثلاث مائة .