اليوم هو الجمعة الحزينة، فقد وضع السيد المسيح على الصليب بعدما خان يهوذا نفسه لليهود وباع أستاذه، وسلم اليهود المسيح للرومان بدعوى أنه يثير الفتن، وقد أبدع الفن التشكيلى فى تخليد تلك اللحظة لكن ليس هناك مثل ما فعله الفنان الأسبانى "ألجريكو" الذى عاش فى الفترة بين (1541 – 1614).
وتعالوا معا نقرأ ما كتبه الشاعر العربي الراحل أمجد ناصر (1955 – 2019) عن اللوحة: "إلهي، إلهى لماذا خذلتنى!".
قال السيد المسيح تلك الجملة الشهيرة بالآرامية على ما أظن، ففي إنجيل متّى يجىء "ونحو السَّاعَةِ التَّاسِعَةِ، صَرَخَ يَسُوعُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ، قَائِلاً: "إِيلى، إِيلِى، لِمَ شَبَقْتَنِى؟" ما يعني بالعربية: إلهى إلهى، لماذا تركتنى؟ كثيرون، في بلادنا المدماة التي ترتدي تيجاناً من الأشواك، والدم يسيل من أطرافها المسمَّرة على صليب الواقع الراهن، يمكن أن يصرخوا تلك الصرخة. ليس المسيحيون فقط، بل المسلمون قبلهم. مسرَّاتنا ظالمة، لكن آلامنا عادلة. لا تكاد تفرّق بين دين وآخر، ومذهب وسواه، فالكل في الهمّ شرق، على حد تعبير أمير الشعراء.
في معرض لبعض أعمال الفنان ألجريكو في لندن، كانت هناك لوحة فريدة لصلب المسيح. وألجريكو من أصول يونانية كريتية، على الرغم من أن العالم سيعرفه، عندما يسطع نجمه، أهم رسام إسباني في القرن السادس عشر، وإن ظل يحمل اسم بلاده الأولى.
في لوحته، نرى السيد المسيح على الصليب لا يزال حياً. يتطلع بوجهه إلى السماء، وهناك تمتمة صامتة على شفتيه. لكن، بدلاً من وجود مريم العذراء ويوحنا ومريم المجدلية إلى جانبه، وهم من أسرته وعشيرته، نرى شخصين آخرين قرب قدمي المسيح المصلوب.
مذهلة لوحة ألجريكو الذي يحمل اسمه بلاده الإغريق، مسبوقة بأداة التعريف العربية التي سيقتبسها اللسان الإسبانى من الوجود العربى الطويل في شبه القارة الإيبيرية.
إنها لا تشبه أية لوحة صلب أخرى لا في ألوانها، ولا في ما هو عليه المسيح من "حالة تعبيرية"، ولا بالذين يقفون إلى جانبه، فقد كسر ألجريكو قاعدتين في رسم المسيح على الصليب: الأولى أنه أدخل شخصين فانيين من زمانه في ذلك المسرح الخالد، فبدلاً من أن تكون أمه ومريم المجدلية ويوحنا بالقرب من الصليب، نرى هنا رجلين يرتدي أحدهما زي النبلاء، والثاني زي الكهنة، كما كانا عليه في القرن السادس عشر، فمن هما هذان اللذان يجرؤ ألجريكو على إدخالهما إلى هذا المسرح المطوَّب لعائلة المسيح؟
إنهما الرجلان اللذان طلبا منه أن يرسم هذه اللوحة، كي توضع فوق مذبحة كنيسة في طليطلة التي أقام فيها ألجريكو حتى نهاية حياته! ذكرتني هذا الفعلة التي تكسر الإطار المقدس للحظة الصلب، بل قل الرهبة التي تحيط لحظة أشهر عملية صلب في التاريخ، بما قام به المسرحي الألماني بيرتولد بريشت في المسرح.
فإلى هذا الشاعر والمسرحي التقدمي الألمانى، ينسب هدم الجدار الرابع للمسرح. أى إلغاء الحاجز الوهمى الفاصل بين العمل المسرحى والجمهور، وبذلك تتبدد سحرية التماهى بين المشاهد والممثل، فيرى تمثيلاً بدل أن يرى حياة.
هل قصد ألجريكو ذلك؟ بالأخذ في الاعتبار، أنه من الفنانين الذين تجرأوا على التقليد التشكيلي، ومارسوا ما يمكن وصفه اليوم "التجريب"، فليس مستغرباً أنه فعل ذلك قصدا، ولكن، كيف قبل النبيل والقسيس أن يكونا بديلاً للعذراء ويوحنا المعمدان، فلهذا تفسير آخر.
وعلى عكس كثير من لوحات الصلب التي تتفانى في استخدام الألوان، وتجتهد في رسم تفاصيل مسرح الجريمة، وتعطي اعتبارا للصليب ومساميره المغروسة في يدي المسيح وقدميه، جاءت لوحة ألجريكو هذه. فالسماء، كما يقول بعض أناجيل حوارييه، اكفهرّت وقتمت. وهذا ما يفعله ألجريكو. سماء مكفهرة. راعدة. قاتمة، تكاد أن تكون بلا لون. ليست هناك عناية بالصليب وخشبه. ثمة ثلاثة مسامير، اثنان في يديه، وواحد في قدميه المضمومتين معاً. غياب البهرجة اللونية يقرّب المصلوب من آلامه. لكن، هناك تفسير آخر لرمادية السماء وتناقض خطوط وألوان المسيح على الصليب عن الرجلين اللذين يقفان إلى جانبه. فألجريكو يعطي لهذين الرجلين سمتاً واقعياً، ما يوحي، ربما، بأنهما أمام رؤيا المسيح على الصليب. المهم في الأمر أن شفتي ابن مريم تكادان أن تتمتما بآخر كلماته: إلهي إلهي لماذا تركتني. وفي رواية أخرى: لماذا خذلتني!