نواصل مع المفكر العربى الكبير جواد على قراء تاريخ المنطقة العربية وذلك من خلال كتابه المهم "المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام" ونتوقف اليوم عند شعب مكة الذى تفاوت مستواهم الاجتماعى بين أغنياء ومعدمين.
يقول جواد على:
كان أهل مكة بين غنى مُتْخَم وفقير معدم، وبين الجماعتين طبقة نستطيع أن نقول: إنها كانت متوسطة. وأغنياء مكة، هم أصحاب المال، وقد تمكنوا من تكثيره بإعمال ما عندهم من مال بالاتجار وبإقراضه للمحتاج إليه، وبإعماله بالزراعة، واستغلاله بكل الطرق المربحة التي يرون أنها تنفحهم بالأرباح.
وقد تمكن هؤلاء الأغنياء من بسط سلطانهم على قبائل الحجاز، ومن تكوين صلات وثيقة مع أصحاب المال فى العربية الجنوبية وفي العراق وبلاد الشام، بحيث كانوا يتصافقون في التجارة ويشاركونهم فى الأعمال، حتى صاروا من أشهر تجار جزيرة العرب فى القرن السادس للميلاد.
ويظهر مما جاء في القرآن الكريم أن بعض هؤلاء الأغنياء كان قاسيًا، لم تدخل الرحمة ولا الشفقة قلبه. فكان يقسو على المحتاج، فلا يقرضه المال إلا بربا فاحش وكان يشتط عليه. وكان بعضهم لا يتورعون من أكل أموال اليتيم والضعيف، طمعًا في زيادة ثرائه، وكان يستغل رقيقه استغلالًا شنيعًا، حتى إنه كان يكره فتياته على البغاء ليستولى على ما يأتين به من مال، وفي ذلك نزل النهي عنه في الإسلام: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}. قال "الطبري": "كانوا في الجاهلية يكرهون إماءهم على الزنا، يأخذون أجورهن. فقال الله: لا تكرهوهن على الزنا من أجل المنالة في الدنيا، ومن يكرههن، فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم لهن، يعني: إذا أكرهن" وقال: "كانوا يأمرون ولائدهم يباغين، يفعلن ذلك، فيصبن فيأتينهم بكسبهن"، وروي أن هذه الآية نزلت فى حق "عبد الله بن أبى سلول".
وكان من أغنياء مكة من يأكل بصحاف من ذهب وفضة، ويشرب بآنية من ذهب وفضة ومن بلور، ويأكل على طريقة الروم والفرس بسكاكين وشوكات مصنوعة من ذهب أو من فضة، على حين كان أكثر أهل مكة فقراء لا يملكون شيئًا، وكانوا يلبسون الحرير، ويتحلون بالخواتم المصنوعة من الذهب، تزينها أحجار كريمة، ولعل هذا الإسراف والتبذير كانا في جملة العوامل التي أدت إلى منع المسلمين من استعمال الأوانى المصنوعة من الذهب والفضة للأكل والشرب، ومن صدور النهي من استعمال الحرير للرجال.