وصلنا مع المفكر العربى الكبير جواد على إلى زمن بعثة سيدنا محمد عليه السلام، ونقرأ معا كيف كان المجتمع العربى فى هذه الفترة، من خلال كتابه المهم "المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام" ونتوقف عند معنى أهل الحضر وأهل المدر.
يقول جواد على:
المجتمع العربى: بدو وحضر، أهل وبر وأهل مدر، يتساوى فى هذه الحال عرب الشمال وعرب الجنوب وعرب جميع أنحاء جزيرة العرب الأخرى.
وقسم بعضهم عرب الجاهلية إلى ملوك وغير ملوك، وقسموا سائر الناس بعد الملوك إلى طبقتين: أهل مدر وأهل وبر، فأما أهل المدر فهم الحواضر وسكان القرى، وكانوا يعيشون من الزرع والنخل والماشية والضرب فى الأرض للتجارة، وأما أهل الوبر فهم قطان الصحارى، يعيشون من ألبان الإبل ولحومها، منتجعين منابت الكلأ، مرتادين لمواقع القطر، فيخيمون هنالك ما ساعدهم الخصب وأمكنهم الرعى، ثم يتوجهون لطلب العشب وابتغاء المياه، فلا يزالون فى حل وترحال.
ويعرف الحضر، وهم العرب المستقرون بـ"أهل المدر"، عرفوا بذلك لأن أبنية الحضر إنما هى بالمدر، والمدر: قطع الطين اليابس، قال "عامر للنبى -صلى الله عليه وسلم-: لنا الوبر، ولكم المدر"، فعنى به المدن أو الحضر، ومن هنا قيل للحضر: بنو مدراء، وورد في حديث "الجسَّاسة والدجال" "تبعه أهل الحجر وأهل المدر، يريد أهل البوادى الذين يسكنون مواضع الأحجار والرمال، وأهل المدر، أهل البادية".
ويظهر من روايات أخرى أن "أهل المدر" هم أهل البادية، ولكن أكثرها أن "أهل المدر" هم الحضر؛ لأن اتخاذ بيوت المدر لا يكون فى البادية، بل في الحضر.
وورد أن أهل البادية إنما قيل لهم "أهل الوبر"، لأن لهم أخبية الوبر، تمييزًا لهم عن أهل الحضر الذين لهم مبانٍ من المدر، ومن هنا قيل للقرية "المدرة"؛ لأنها مبنية بالطين واللبن، وذكر أن "المدرة" القرية والمدينة الضخمة أيضًا، لأن المدن تبنى بالمدر أيضًا، ومن هنا قيل للحضر عمومًا: بنو مدراء.
ويذكر علماء اللغة أن الحضر والحاضرة والحضارة خلاف البادية والبداوة والبدو، والحضارة الإقامة فى الحضر، والحاضر والحضر هى المدن والقرى والريف، سميت بذلك لأن أهلها حضروا الأمصار ومساكن الديار التي يكون لهم بها قرار، وقد عرفوا بأهل القارية، وذلك في مقابل أهل البادية، لأهل البدو.
و"أهل القرار" هم الحضر؛ لأنهم اختاروا القرار وأحبوا الاستقرار والإقامة فى مكان واحد، ولأن الطبيعة حبتهم بكل شىء يغرى على الارتباط بالأرض، ولو ولد الأعرابي بين الحضر وتوفر لديه ما يؤمن له رزقه الدائم فى مكانه الذى ولد فيه، لما تنقل وارتحل، ولصار حضريا من دون شك مثل سائر أهل الحضر، ولكن الطبيعة حرمته من نعم الاستقرار، فصار بدويًّا يتتبع العشب والماء، فالطبيعة هى المسئولة عن البداوة وعن انتشارها فى جزيرة العرب.