نواصل مع الكاتب الكبير قراءة مشروع محمد حسين هيكل، ونتوقف اليوم، مع كتاب مهم بعنوان "الإمبراطورية الإسلامية والأماكن المقدسة" فما الذى يناقشه هذا الكتاب ويقوله.
يتناول الكتاب موضوعين رئيسيين، أولهما يتعلَّق بالمبادئ العامة لنظام الحكم، وكيف لها أن تتَّفق مع مقرَّرات الدين الإسلامى، وبيان أشكال علاقة الحاكم بالمحكوم، وآليات الرقابة على الحاكم، والوسائل المختلفة التى تكفل الحرية فى هذا الإطار، أمَّا الموضوع الثانى، فيتعلَّق بالأماكن المقدَّسة الموجودة فى منطقة الشرق الأوسط، حيث يصفها الدكتور "محمد حسين هيكل" ويُبيِّن أثرها الروحى على العالم.
يقول الكتاب، لم يضع النبى العربى نظامًا مفصلًا للحكومة الإسلامية، على أن ما جاء به من عند الله تنظيمًا لقواعد السلوك والمعاملات كان مقدمة لتنظيم سياسى لا مفر من استقراره، وقد بدأ هذا التنظيم السياسى تطوره البطىء من عهد النبى، ثم كان تطوره أكثر وضوحًا عقب حروب الردة، فلما اتسعت رقعة الفتح الإسلامى بدأت العوامل الخارجية تُحدث أثرها فى هذا التطور، وكان أثر هذه العوامل بعيدًا عن القواعد الإسلامية أحيانًا، مناقضًا لها كل المناقضة أحيانًا أخرى.
وكانت النظم القائمة فى الروم وفى فارس هى التى تأثر بها نظام الحكم الإسلامى منذ أنشأ عمر الديوان، ثم ازداد تأثرًا بها فى عهد عثمان، فلما قامت الدولة الأموية، واتخذت دمشق مقرًّا لها، كان طبيعيًّا أن تزداد هذه العوامل أثرًا فى تصوير الإطار الخارجى لنظام الحكم، على أن الروح العربية ظلت سائدة إلى حد كبير فى عهد بنى أمية، لأن الذين كانوا يضطلعون بأعباء الحكم ومناصب الدولة الكبرى كانوا من العرب، فلما انتقل الأمر إلى العباسيين، بدأ الأثر الخارجى يبدو أكثر وضوحًا، لأن الفرس كانوا أصحاب نفوذ كبير فى شئون الدولة.
هذا، ثم إن العهد العباسى امتاز بنقل الفلسفة اليونانية إلى اللغة العربية؛ لذا بدأت نظريات هذه الفلسفة تعمل عملها فى تطوير الحياة العامة للدولة الإسلامية. صحيح أن الفقهاء والمحدثين، ومن إليهم، عنوا فى ذلك العهد باستنباط القواعد والأحكام من الكتاب والسنة، أو مهدوا بذلك لوضع التشريع الإسلامي، لكن كثيرين من هؤلاء الفقهاء والمحدثين، وكثيرين من الكتَّاب والمفكرين، كانوا من غير العرب، فكان طبيعيًّا أن تؤثر وراثتهم العقلية فى أحكامهم وفى منطقهم. ثم إن النظام الذى كان قائمًا فى فارس، وفى بلاد الروم يجعل لولى الأمر سلطانًا مطلقًا، فكان من أثر ذلك أن تطورت الفكرة الأساسية فى الحكم إلى النقيض لما كانت عليه فى أول العهد الإسلامي. ثم كان من أثره أن شاعت فكرة هذا الحكم المطلق متنقلة من أمير المؤمنين إلى الحكام والولاة، وإلى مَن دونهم مِن سائر من يتولون منصبًا من مناصب الدولة ذا أثر فى توجيه حياة الناس ومنافعهم.