بدأت الدعوة الإسلامية تنتشر، ووجد كفار قريش أنفسهم غير قادرين على المواجهة، فراحوا يجادلون النبى محمد، عليه الصلاة والسلام، فما الذى يقوله التراث الإسلامى فى ذلك؟
يقول كتاب "البداية والنهاية" لـ الحافظ ابن كثير تحت عنوان "باب مجادلة النبى صلى الله عليه وسلم الكفار وإقامة الحجة الدامغة عليهم":
قال إسحاق بن راهوايه، حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب السختيانى، عن عكرمة عن ابن عباس.
أن الوليد بن المغيرة جاء إلى رسول الله ﷺ فقرأ عليه القرآن، فكأنه رقَّ له، فبلغ ذلك أبا جهل فأتاه فقال: يا عم إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالا.
قال: لِمَ؟
قال: ليعطوكه فإنك أتيت محمدا لتعرض ما قبله.
قال: قد علمت قريش أنى أكثرها مالا.
قال: فقل فيه قولا يبلغ قومك أنك منكر له.
قال: وماذا أقول؟ فوالله ما منكم رجل أعرف بالأشعار منى، ولا أعلم برجزه، ولا بقصيده منى، ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذى يقول شيئا من هذا، ووالله أن لقوله الذى يقوله حلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه مغدق أسفله، وإنه ليعلو ولا يعلى، وإنه ليحطم ما تحته.
قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه.
قال: قف عنى حتى أفكر فيه، فلما فكر.
قال: إن هذا إلا سحر يؤثر يأثره عن غيره، فنزلت "ذَرْنِى وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالا مَمْدُودا * وَبَنِينَ شُهُودا" [المدثر: 11-13] الآيات.
هكذا رواه البيهقي، عن الحاكم، عن عبد الله بن محمد بن على الصنعانى بمكة عن إسحاق به.
وقد رواه حماد بن زيد، عن أيوب، عن عكرمة مرسلا.
فيه أنه قرأ عليه: "إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِى الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْى يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ" [النحل: 90] .
وقال البيهقى عن الحاكم، عن الأصم، عن أحمد ابن عبد الجبار، عن يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق، حدثنى محمد بن أبى محمد، عن سعيد بن جبير - أو عكرمة، عن ابن عباس - أن الوليد بن المغيرة اجتمع ونفر من قريش وكان ذا سن فيهم، وقد حضر المواسم فقال: إن وفود العرب ستقدم عليكم فيه وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا فأجمعوا فيه رأيا واحدا ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضا، ويرد قول بعضكم بعضا.
فقيل: يا أبا عبد شمس، فقل، وأقم لنا رأيا نقوم به.
فقال: بل أنتم فقولوا وأنا أسمع.
فقالوا: نقول كاهن؟
فقال: ما هو بكاهن رأيت الكهان.
فما هو بزمزمة الكهان.
فقالوا: نقول مجنون؟
فقال: ما هو بمجنون، ولقد رأينا الجنون وعرفناه فما هو بحنقه ولا تخالجه ولا وسوسته.
فقال: نقول شاعر؟
فقال: ما هو بشاعر قد عرفنا الشعر برجزه، وهزجه، وقريضه، ومقبوضه، ومبسوطه، فما هو بالشعر.
قالوا: فنقول هو ساحر؟
قال: ما هو بساحر قد رأينا السحار وسحرهم فما هو بنفثه ولا بعقده.
قالوا: فما نقول يا أبا عبد شمس؟
قال: والله إن لقوله لحلاوة، وإن أصله لمغدق، وإن فرعه لجنىً فما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عرف أنه باطل، وإن أقرب القول لأن تقولوا هذا ساحر، فتقولوا هو ساحر يفرِّق بين المرء ودينه، وبين المرء وأبيه، وبين المرء وزوجته، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وعشيرته فتفرقوا عنه بذلك.
فجعلوا يجلسون للناس حتى قدموا الموسم لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه، وذكروا لهم أمره وأنزل الله فى الوليد: "ذَرْنِى وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالا مَمْدُودا * وَبَنِينَ شُهُودا" [المدثر: 11-13] الآيات.
وفى أولئك النفر: "الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ * فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ" [الحجر: 91-93] .
قلت: وفى ذلك قال الله تعالى إخبارا عن جهلهم وقلة عقلهم: "بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ" [الأنبياء: 5] فحاروا ماذا يقولون فيه فكل شيء يقولونه باطل، لأن من خرج عن الحق مهما قاله أخطأ.
قال الله تعالى: "نْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلا" [الإسراء: 48] .
وقال الإمام عبد بن حميد فى (مسنده): حدثنى أبو بكر ابن أبى شيبة، حدثنا على ابن مسهر عن الأجلح - هو ابن عبد الله الكندى - عن الذيال بن حرملة الأسدي، عن جابر بن عبد الله.
قال: اجتمع قريش يوما فقالوا: أنظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر، فليأت هذا الرجل الذى فرق جماعتنا، وشتت أمرنا وعاب ديننا فليكلمه ولينظر ماذا يرد عليه؟
فقالوا: ما نعلم أحدا غير عتبة بن ربيعة.
فقالوا: أنت يا أبا الوليد، فأتاه عتبة فقال: يا محمد أنت خير أم عبد الله؟ فسكت رسول الله ﷺ.
فقال: أنت خير أم عبد المطلب؟ فسكت رسول الله ﷺ.
قال: فإن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك فقد عبدوا الآلهة التى عبت، وإن كنت تزعم أنك خير منهم فتكلم حتى نسمع قولك إنا والله ما رأينا سخلة قط أشأم على قومه منك فرقت جماعتنا، وشتت أمرنا، وعبت ديننا، وفضحتنا فى العرب حتى لقد طار فيهم أن فى قريش ساحرا، وأن فى قريش كاهنا.
والله ما ننتظر إلا مثل صيحة الحبلى أن يقوم بعضنا إلى بعض بالسيوف حتى نتفانى: أيها الرجل إن كان إنما بك الحاجة جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش رجلا، وإن كان إنما بك الباه فاختر أى نساء قريش شئت فلنزوجك عشرا.
فقال رسول الله ﷺ: "فرغت؟"
قال: نعم!
فقال رسول الله ﷺ: "بسم الله الرحمن الرحيم، حم * تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنا عَرَبِيّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ" إلى أن بلغ "فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ" [فصلت: 2-13]".
فقال عتبة: حسبك ما عندك غير هذا؟
قال: لا.
فرجع إلى قريش فقالوا: ما وراءك؟
قال: ما تركت شيئا أرى أنكم تكلمونه إلا كلمته.
قالوا: فهل أجابك؟
فقال: نعم!
ثم قال: لا والذى نصبها بنية ما فهمت شيئا مما قال غير أنه أنذركم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود.
قالوا: ويلك يكلمك الرجل بالعربية لا تدرى ما قال؟
قال: لا والله ما فهمت شيئا مما قال غير ذكر الصاعقة.
وقد رواه البيهقى وغيره عن الحاكم، عن الأصم، عن عباس الدوري، عن يحيى بن معين، عن محمد بن فضيل، عن الأجلح به.
وفيه كلام، وزاد: وإن كنت إنما بك الرياسة عقدنا ألويتنا لك فكنت رأسا ما بقيت وعنده أنه لما قال: "فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود" أمسك عتبة على فيه وناشده الرحم أن يكف عنه، ولم يخرج إلى أهله واحتبس عنهم.
فقال أبو جهل: والله يا معشر قريش ما نرى عتبة إلا صبأ إلى محمد وأعجبه طعامه، وما ذاك إلا من حاجة إصابته، انطلقوا بنا إليه فأتوه.
فقال أبو جهل: والله يا عتبة ما جئنا إلا أنك صبوت إلى محمد وأعجبك أمره، فإن كان بك حاجة جمعنا لك من أموالنا ما يغنيك عن طعام محمد.
فغضب وأقسم بالله لا يكلم محمدا أبدا.
وقال: لقد علمتم أنى من أكثر قريش مالا، ولكنى أتيته - وقص عليهم القصة - فأجابنى بشيء والله ما هو بسحر ولا بشعر ولا كهانة، قرأ: بسم الله الرحمن الرحيم: " حم * تنزيل من الرحمن الرحيم " حتى بلغ: "فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود".
فأمسكت بفيه وناشدته الرحم أن يكف، وقد علمتم أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب، فخفت أن ينزل عليكم العذاب.