يعد علم الإحصاء الحديث بعيدا كل البعد عن كونه ذلك المجال الجاف والممل الذى يتصوره العامة؛ فهو فى حقيقة الأمر موضوع مثير يستخدم نظرية عميقة وأدوات برمجية قوية ليسلط الضوء على كل جوانب حياتنا تقريبا؛ من علم الفلك إلى الأبحاث الطبية، ومن علم الاجتماع إلى السياسات الحزبية والشركات الكبرى.
ومن الكتب التى تستهدف القراء الذين ليست لديهم معرفة رياضية مسبقة، وتستكشف وتشرح طبيعةَ علم الإحصاء، وكيفيةَ استخدامِه، وكيف يمكننا أن نتعلم فهمه وتفسيره، كتاب "علم الإحصاء: مقدمة قصيرة جدًّا" تأليف ديفيد جيه هاند، وترجمة أحمد شكل، وصدرت طبعته الإلكترونية المترجمة عن مؤسسة هنداوى للنشر.
ويعتبر مؤلف الكتاب أن "علم الإحصاء هو أكثر العلوم إثارة" ويأتى الهدف الرئيسى من الكتاب بحسب مؤلفه أن يوضح أن هذه العبارة صحيحة، وعلى نحو خاص، يريد فى أن أنقل أمرين؛ أولهما: هو نكهة الثورة التى حدثت فى العقود القليلة الماضية؛ فأريد أن أشرح كيف تحول الإحصاء من علم فيكتورى جاف معنى بالتلاعب اليدوى بأعمدة الأرقام إلى تكنولوجيا حديثة متطورة للغاية تنطوى على استخدام أدوات البرمجيات الأكثر تقدما.
ويريد توضيح كيف يستخدم إحصائيو اليوم هذه الأدوات لدراسة البيانات بحثًا عن البنيات والأنماط، وكيفية استخدامهم لهذه التكنولوجيا لتقشير طبقات الحيرة والغموض وكشْف الحقائق الموجودة تحتها؛ فعِلم الإحصاء الحديث - على غرار التلسكوبات والمجاهر والأشعة السينية وأجهزة الرادار وأجهزة المسح الطبية - يمكِّننا من رؤية أشياء غير مرئية للعين المجردة؛ فهذا العلم يمكِّننا من الرؤية خلال الضباب والارتباك الموجود فى العالَم من حولنا؛ من أجل فهم الواقع الأساسي.
أحد التعريفات التى قدمت فى الفصل الأول حول الإحصاء هو أنه علم التعامل مع عدم اليقين. وبما أنه من الواضح للغاية أن العالم مليء بعدم اليقين، فإن هذا أحد أسباب هيمنة الأفكار والأساليب الإحصائية. إن المستقبل مجهول ولا نستطيع أن نكون واثقين بشأن ما سيحدث. وبالفعل يحدث ما هو غير متوقَّع؛ فتتعطل السيارات ونقع فى حوادث ويضرب البرق، وخشية أن أقدم انطباعًا بأن كل الأمور سيئة، أقول إن هناك مَن يفوزون حتى باليانصيب. وفى أبسط الحالات، نحن لا نعلم يقينًا أى حصان سيفوز بالسباق أو أى عدد سوف يَظهَر عند إلقاء نرد. وفوق ذلك كله، لا نستطيع التنبؤ بطول الحياة التى سنعيشها.
لكن على الرغم من كل هذا، يتمثل أحد أعظم الاكتشافات التى توصلت إليها البشرية فى أنه يوجد مبادئ معينة تحكم سَيْر المصادفة وعدم اليقين. ربما يبدو هذا تناقضًا فى المصطلحات؛ فالأحداث غير اليقينية بطبيعتها لا تنطوى على يقين؛ فكيف إذن توجد قوانين طبيعية تحكم سير هذه الأمور؟
إحدى الإجابات على هذا السؤال هى أنه فى حين أن الأحداث الفردية ربما تكون غامضة وغير قابلة للتنبؤ بها، فإنه غالبًا ما يكون من الممكن الخروج بتعميم ينطبق على مجموعة من الأحداث. المثال الكلاسيكى لذلك هو إلقاء العملة؛ فرغم أننى لا أستطيع أن أقول ما إذا كانت العملة ستظهر وجه الصورة أم الكتابة بعد أى عملية إلقاء منفردة، يمكننى أن أقول بثقة كبيرة إنه إذا أُلقيت العملة عدة مرات فإنها ستظهر وجه الصورة فى حوالى نصف عدد المرات ووجه الكتابة فى حوالى نصف عدد المرات.