نقرأ معا كتاب "موجز النقود والسياسة النقدية" لـ زكريا مهران، والذى يتابع تاريخ سك العملة منذ البداية، منطلقا منذ عرف الإنسان فكرة تبادل السلع، وبعد ذلك ظهور أهمية سك العملة.
يقول الكتاب: أى الشعوب بدأت حكومتها تضرب العملة المعدنية؟
سؤال لابد لنا من الإجابة عليه برغم صعوبته، إذ لو كان السؤال هو أى الشعوب قد بدأ باستعمال المعادن فى مقام النقود لكانت الإجابة عليه بإجماع آراء العلماء والباحثين أنه هو الشعب المصرى القديم، لأن قدماء المصريين قد تعاملوا وتعاقدوا وقدروا قيم السلع بحلقات من المعادن ذات أوزان ثابتة معروفة، أقدمها بطبيعة الحال حلقات البرونز المصنوع من النحاس الذى استخرجوه من مناجم سينا قبل ميلاد المسيح عليه السلام بأربعة آلاف سنة.
أما حلقات الذهب وقضبانه الملتوية، فلم يستعملوها إلا بمقادير قليلة نظرًا لصعوبة الحصول عليه، ولم يثبت استعماله إلا قبل المسيح بألف ومائتين من السنين، بينما الفضة لم يثبت استعمالها فى تلك الأغراض فى الأزمنة الغابرة بمصر؛ لأنها كانت قليلة الوجود فيها؛ ولذلك كانت فى بعض الأحيان أغلى من الذهب، ومما يذكر عن قدماء المصريين أنهم كانوا يصبون هذه الحلقات والقضبان فى القوالب، ثم يزنونها للتأكد من صحة وزنها قبل الدفع بها إلى التعامل.
أما إذا كان التعامل بقطع يضربها الحاكم باسمه، فهنا البحث بين المؤرخين، قال بعضهم: إن الصينيين هم أول من عرف العملة المعدنية، وأن القطع المعدنية التى عثرت عليها جمعية التنقيب البريطانية فى مقاطعة البنجاب بالهند، وأرجعت تاريخها إلى ما قبل ٢٥٠٠ أو ٣٠٠٠ سنة قبل الميلاد، تلك القطع التى بعضها كالقوارب شكلًا، وفى وسطه ما يشبه طابعًا أو خاتمًا لحاكم قديم، وبعضها مثل عددًا أو أدوات صغيرة جدًّا لا يعقل أنها كانت تستعمل فى القتال، أو فى أغراض الفلاحة، إنما كانت بالفعل نقودًا متداولةً فى بلاد الصين، ثم انتقلت منها إلى البلاد الهندية فى ظل بعض الفاتحين.
ولقد ذهب أصحاب هذا الرأى إلى حد قالوا معه إن الصينيين هم أيضًا أول من اتخذ النقود الورقية، وأن تجارهم كتبوا فى تلك المدة تحاويل وسفاتج على قطع من الجلود والخشب كما فعل الفينيقيون، وأن بعض ملوكهم — كما نقل المقريزى — صنع عجينةً من لباب الشجر، وكتب عليها قيمة مقدرة أجبر شعبه على التعامل بها فى محنة لم يجد فى وقتها ما يلزمه من المعادن، ولكن قد اتضح أخيرًا بطلان رأى القائلين بأن الصينيين القدماء هم أول من عرف العملة وضربها؛ لأنه رأى اعتمد على تقديرات خاطئة فى حساب التواريخ ومقارنة المدنيات.
قال هيرودوت عن الليديين: إنهم أول من ضرب العملة المعدنية، وقد تعزز قوله بدليل مادى هو عثور المنقبين فى حفائر ليديا على عملة تعتبر أقدم العملات التى وجدت، ويرجع تاريخها إلى القرن الثامن قبل الميلاد، وكذلك ثبت من الوجهة التاريخية أن معبد أفسوس الذى بنى فى القرن السابع قبل الميلاد قد دفعت نفقات بنائه قطعًا من العملة.
ولا يسعنا ما دام لم يتأكد بوجه قاطع من البحوث التاريخية من الذى كان له فضل السبق بين الشعوب فى ضرب العملة إلا أن نأخذ مؤقتًا برأى هيرودوت حتى يظهر لنا ما ينقضه، فنصف لك هنا عملة هؤلاء الليديين الذين سكنوا أزمير، وما جاورها من غرب آسيا الصغرى، وضربوا عملتهم فى بادئ الأمر من معدن وجدوه عند شواطئ بلادهم، اختلط فيه الذهب بالفضة اختلاطًا طبيعيًّا بنسبة تتراوح بين ٥٪ و٩٥٪، وكان اللون هو الذى يميز على وجه التقريب نسبة الذهب إلى الفضة فى ذلك الاختلاط، فإن كان المعدن ضاربًا لونه إلى البياض كانت الفضة هى المتغلبة فيه، وإن كان لونه ضاربًا إلى الصفرة، فالذهب هو الأكثر.
وقد سمى الإغريق ذلك المخلوط بالإلكترم، وقال بليني: إنه لم يكن يعتبر من الإلكترم إلا المخلوط الذى أربعة أخماسه من الذهب، والواقع أنه كانت لكل بلد من بلاد ليديا نسبة تعرف بها فمتى ذكر مصدر الإلكترم تعينت نسبة ما فيه من المعدنين.
ويعتقد العلامة جاردنر أن أول ملك سك العملة الرسمية فى ليديا هو الملك كروسوس، وكان ملكًا يكتنز المعادن، ويحتكر التجارة لنفسه مع الشعوب المجاورة لبلاده، ويرى العلامة هد أن أول ملك سك العملة فى ليديا هو واحد من اثنين: إما جايجيز أو ألياطس.