نصوص إنسانية كثيرة تلك التى يغيبها أو يستحضرها كريم عبد السلام فى ديوانه "مراثى الملاكة من حلب" الذى صدر مؤخرًا عن دار الجديد فى لبنان، ثمة نصوص غائبة تظهر وتختفى فى طبقات المعنى الذى يحاول الشعراء أن يحفروه فى وعى القارئ.
من يقرأ الديوان الذى كسر أفق توقع القارئ للشعر يتوقف طويلاً حول ما يمكن للقصيدة أن تحمله من عوالم، قارئ الشعر يتوقع التحليق عبر أجنحة من خيال يصنعها له الشاعر، لكن قارئ "مراثى الملاكة من حلب" ربما يبتلع ريقه بصعوبة وهو يقرأ عوالم هؤلاء النسوة اللاتى انفتحت بوابات الجحيم لتبتلعهن حين أفتى شيخ ما تربى على ما فى التراث العربى من أفكار دموية بأنه يمكن أن يستخدم النساء فى النكاح، ألا يعتبرهن متاعًا يحق له أن يستخدمهن أنى شاء وكيفما أراد؟! ما الذى جعلنى هذا المساء أعود لمكتبتى وأمد يدى لأستخرج هذا الديوان الذى قرأته منذ شهور ولم أستطع التعامل النقدى مع دواله لما فيه من فجائع ومآسٍ لم أتصور يوما أن تحملها قصيدة؟! هل ما حفزنى الليلة لأعود إليه وأستنطقه هو ما رأيت من صور تترى من حلب الشهباء وهى تحترق وأطفالها ونساؤها قبل رجالها يدفعون ويدفعن ثمن الحمق العالمي؟! ربما كانت صور الفجيعة هى التى ذكرتنى أن ثمة ملاكات رآهن كريم عبد السلام بعين الفجيعة وكتبهن كى نقرأ نحن ونمصمص شفاهنا على الإنسانية التى تهدر إثر مقولة أطلقها مهووسون بالجنس والدم عما سُمّى بـ"جهاد النكاح".
يبدأ الديوان بقصيدة طويلة بعنوان "الملاكة من حلب" ليكتشف الشاعر أن ثمة ملاكة سقطت على رأسه من سحابة مكسورة الجناحين، حين كان يفكر فى الخبز للعشاء باعتباره الحقيقة الوحيدة فى الوجود. إن ملاكته جعلته يتساءل: "كيف تتحول ملاكة إلى فرج يرفرف فى ملاجئ المقاتلين
وهم يأكلون علب التونة، وينظفون رشاشاتهم بين معركة وأخرى".
يواصل الشاعر هز وعى القارئ وإرباكه حين يصور مأساة هؤلاء النساء اللاتى أرغمهن المجاهدون على أن يعرين أجسادهن، وأن يضعوا رءوسهم الممتلئة بالهوس الجنسى والدموية بين فروجهن، وينهلوا من حليب أفخاذهن. إنه يحكى تاريخ، وكيف تدعوه إلى أن يخفف الوطء عن روحها، أن يعيدها لبهائها القديم، ينقذها من حِرَاب الأغراب التى تُدفع داخلها:"أنا الملاكة الحزينة المقطوعة،
أدعوك رفيقى ومليكي
امسح على جناحى يا سيدي
وضمنى برفق
ضمنى حتى تلتئم جروحي
واحرث أرضى الهوينى
كم هى عطشى للحب".
فى قصيدة "المراثي" يكشف الشاعر عن العالم السرى للملاكات وكيف ينهش القتلة لحومهن الرقيقة، فى القصيدة الأولى يتناص الشاعر مع حكايات "ألف ليلة وليلة" في"الحمال والبنات الثلاث" لكن بنات الحمال الآن غير هؤلاء الذين حكت حكايتهن شهرزاد ذات ليلة لملك كان يلعق كل ليلة دماء النساء بعد أن يأتيهن، حكاية الشاعر المعاصرة عن سفاحين جدد جاءوا إلى سورية كى ينهبوا الأرض وينتهكوا العرض: "كنا ثلاث بنات من حى الشيخ مقصود،
ثلاث أخوات أقمار
نسير على الرمل فينبت العشب
ونبتسم، فتخرج الشمس من مخبئها
وعندما ندخل غرفتنا فى المساء
يتعلق القمر فوق بيتنا
سهرانا طوال الليل
وفى ليال كثيرة
يترك السماء، لينام فى غرفتنا
تحت أقدامنا"
رغم أن لغة الديوان أيروتيكية صادمة إلا أن ثمة انعطافات شعرية وجدانية، ليملأ قلب القارئ حسرة على تلك الجميلات اللاتى كان القمر يسهر تحت أقدامهن، وحين يتوجه الحمال إلى الله كى يحمى قمراته الثلاث تجده يعاتب الله: "ألم أقل لك احفظ بيتنا العتيق
ألم أقل لك احم بناتى من الموت والذئاب"
ولما لم يستجب الله لوالد الفتيات ولم يحفظهن من الذئاب ولا من الموت، ليبدأ الأب فى إطلاق الرصاص باتجاه السماء. يستمر الشاعر فى التناص مع عالم" ألف ليلة وليلة" فنجد القصيدة " مراثى دنيا زاد". إنه يلوم الألم الذى فجع الأسرة كلها: "أيها الألم يا ابن العاهرة
خذ كل الرصاصات
أبى يذهب إلى العمل ويعود إلى الموت كل يوم
ومعه كيس الفاكهة والحلوى
وأمى تطهو وهى تغنى "كيفك أنت"
وتطرز المفارش لغرف الأولاد
ثم تعود للموت باسمة فى المساء
أخى إياد يخرج للقتال
يطلق لحيته ويرتدى أفرولا مموها ويصوب بنقديته نحو النجوم
ثم يعود إلى البيت جريحا ليموت وسط أسرته
وحدها أنا أغادر البيت لأفتح ساقى لأيور خمس قارات
ثم أجلس آخر الليل أراقب الموت يغطى منزل العائلة مثل ملاءة سرير".
إنها الفجيعة مجسدة، فإيور قارات خمس تبحث عن فروج نساء حلب الحرائر ولا مراثى تليق بعريهن الأبيض الرقيق. فى قصيدته" صلاة من أجل سارة" يقول الشاعر:
كفنتها المجاهدات فى قميصها الأحمر "البيبى دول"
ثم فى ملاءة السرير، خريطة الإفرازات
المجاهدون حملوها فى صندوق إلى منتصف الساحة
ثم نادوا لصلاة الجنازة"
وبعد أن أعلن موتها يعود عبر الفلاش باك ليحكى كيف ماتت الشهيدة سارة على الجبهة كما نادى المجاهدون وهم يصلون عليها صلاة الجنازة:" فى غرفتها جنوب المعسكر
ظلت الشهيدة سارة تجاهد
فى مواجهة القوة الثلاثية لنيران الفياجرا والسيلاس وعرق الريان
فى عروق عشرة مجاهدين
يحرثون أرضها
فرادى وجماعات
الشهيدة سارة طلبت أن يكفوا
صرخت فلم يخرج صوتها
ثم انقطع نفسها
لكن ساقيها ظلتا زاوية قائمة والثيران تعدو بينهما
حتى الصباح".
إنها بلاغة الصدمة والفجيعة تلك التى يحاول كريم عبد السلام أن يهز بها ضمير الإنسانية حتى تنتبه إلى تلك الجرائم التى تتم بحق ملاكاته من حلب.