ينطلق كتاب "نشأة النظام الأبوى" تأليف جيردا ليرنر ترجمة أسامة أسبر ويونس وهبة، الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية، ومن فكرة أن الذكورية أمر متعمق بقوة داخل كثير من النفوس البشرية، لكن متى بدأت المرأة فى الخضوع للرجل؟
يقول الكتاب تحت عنوان "أصول":
افترضنا وجود الهيمنة الذكرية كحقيقة مقررة واعتبرنا أى دليل يشكك فى ذَلك مجرد استثناء عن القاعدة أو بديلاً فاشلاً.
إن التقليديين، سواء كانوا يعملون داخل إطار دينى أو "علمى" عدوا خضوع النساء كونياً، موهوباً من الله، أو طبيعياً، وبالتالى ثابتاً، هكذا، لا حاجة إلى التشكيك به، ما بقى على قيد الحياة، بقى لأنّه كانَ الأفضل، يتبع أنّه يجب أن يبقى على ما هو عليه.
إن الباحثين الذين نقدوا الافتراضات المتمركزة ذكرياً، وأولئك الذين رأوا أنّ هناك حاجة إلى التغير الاجتماعى فى الحاضر، تحدوا مفهوم كونيّة الخضوع الأنثوى، قالوا إنه لو كانَ لنظام الهيمنة الأبويّة أصل تاريخى، فإنّه يُمكن أن ينتهى فى ظلّ أوضاع تاريخية مختلفة.
بالتالي، فإن مسألة كونيّة الخضوع الأنثوى كانت، على مدى أكثر من مائة وخمسين عاماً، محورية للجدل بين التقليديين والمفكرات النّسويات.
يرى نفاد التفسيرات الأبويّة، أن السؤال التالى المهم هو: إذا لمّ يكن الخضوع الأنثوى كونياً، إذاً، هل سبق وكان نموذجاً بديلاً للمجتمع؟ اتخذ هذا السؤال فى معظم الأحيان صبغة البحث عن مجتمع أمومى فى الماضى، وبما أن معظم الأدلّة فى هذا البحث مستمدة من الأسطورة، والدين، والرمز، فقد كانَ هناك اهتمام ضئيل بالأدلة التاريخية.
إن السؤال الأكثر أهميّة ودلالة بالنسبة إلى المؤرخ هو التالي: كيف، ومتى، ولماذا حدث الخضوع الأنثوي؟
بالتالي، وقبل أن نتمكن من مناقشة التطور التاريخى للنظام الأبوي، نحتاج إلى مراجعة المواقف الرئيسية فى الجدل حول هذه الأسئلة الثلاثة.
إن جواب المتمسك بالتقاليد على السؤال الأول هو، بالطبع، أن الهيمنة الذكرية كونيّة وطبيعية، يُمكن أن تُقدم الحجة بمصطلحات دينيّة: إن المرأة خاضعة للرجل لأنّ الله خلقها هكذا . يقبل التقليديون ظاهرة "اللاتماثل الجنسي" وتخصيص مهمات وأدوار مختلفة للرجال والنساء، التى تم التقيد بها فى المجتمعات البشريّة المعروفة كلها، كدليل على موقعهم وكدليل على طبيعة هذا الأمر .
وبما أن التصميم الإلهى خص المرأة بوظيفة بيولوجية مختلفة عن الرجل، فهم يقولون إنه خصها أيضاً بمهمات اجتماعية مختلفة، لو أنّ الله أو الطبيعة خلقا فروقاً جنسيّة، حددت بدورها التقسيم الجنسى للعمل، لما تم لوم أحد على اللامساواة الجنسيّة والهيمنة الذكرية.
يركز الشرح التقليدى على قدرة المرأة التناسلية، ويرى فى الأمومة هدف المرأة الرئيسى فى الحياة، ويعرّف ضمنياً النسوة اللواتى لا يصرن أمهات كمنحرفات. وقدْ تم النظر إلى وظيفة المرأة الأمومية كضرورة للنوع، بما أن المجتمعات لمّ تكن قادرة على الاستمرار والوصول إلى الحداثة من دون تكريس أغلبية النساء معظم حيواتهن كبالغات فى الحمل والتربية. وهكذا تم النظر إلى التقسيم الجنسى للعمل، المستند إلى فروق بيولوجية، كوظيفى وعادل.
إن تفسيراً طبيعياً ناتجاً عن لازمة اللاتماثل الجنسى هذه يُرجع أسباب خضوع الأنثى إلى عوامل بيولوجية تؤثر فى الذكور. ذَلكَ أنّ قوة الرجال البدنية الأكبر، وقدرتهم على الجرى بسرعة أكبر وعلى رفع أوزان أثقل، ونزعتهم العدوانية الأكبر، كانت السبب فى جعلهم صيادين، بالتالى صاروا مُزودى الطعام لقبائلهم وقُيّموا وشرّفوا أكثر من النساء. وبدورها، جهزتهم هذه المهارات التى استمدوها من تجربتهم فى الصيد لكى يصبحوا محاربين. إن الإنسان – الصياد، المتفوق فى القوة، والقدرة، والتجربة المستمدة من استخدام الأدوات والأسلحة، يحمى بشكل طبيعي، ويدافع عن الأنثى الأكثر عرضة للهجوم، التى تُحتم عليها بنيتها البيولوجية الأمومة والرعاية . أخيراً، استمر هذا التفسير البيولوجى الحتمى من العصر الحجرى إلى الحاضر عبر التأكيد بأن التقسيم الجنسى للعمل المستند إلى «تفوّق» الرجل الفطرى هو هبة، وبالتالى صالح اليوم كما كانَ فى البدايات الأولى للمجتمع الإنساني.
إن هذه النظرية، فى أشكالها المتنوعة، هى حالياً النسخة الأكثر شعبيّة من الحجة التقليدية، وكان لها تأثير تفسيرى قوى فى تعزيز الأفكار المعاصرة للتفوق الذكري. وقدْ يعود هذا، على الأرجح، إلى العلمية المستندة إلى أدلة إثنوغرافية وإلى حقيقة أنها تبدو كأنها تفسّر الهيمنة الذكرية بطريقة تريح الرجال المعاصرين من جميع المسؤوليات عنها، إن الطريقة العميقة التى أثر فيها هذا التفسير حتّى فى المنظرات النّسويات يتجلّى فى قبوله الجزئى من قبل سيمون دو بوفوار (Simone de Beauvoir)، فقد عدّت كهبة أن «تفوّق» الرجل مستمدّ من الصيد والحرب واستخدام أدوات ضروريّة لهذه المهمات.
بعيداً عن مزاعمه البيولوجية الملتبسة عن تفوق الرجال الجسدي، دحض تفسير الإنسان – الصيّاد بأدلة أنثروبولوجية حول مجتمعات القنص والجني. ففى معظم تلك المجتمعات، كانَ قنص كبار الطرائد هواية مُساعدة، فيما كانت نشاطات جنى وقنص صغار الطرائد، التى تقوم بها النساء والأطفال، تقدم مؤونة الطعام الرئيسية . وكما سنرى فيما بعد أيضاً، سنعثر فى مجتمعات القنص والجنى على أمثلة كثيرة عن التكاملية بين الجنسين والمجتمعات التى للنساء فيها موقع رفيع نسبياً، الأمر الذى يتناقض مباشرة مع ادعاء المدرسة الفكرية للإنسان – الصياد.
تحدث الأنثروبولوجيات النّسوية مؤخراً كثيراً من التعميمات السابقة، التى رأت أن الهيمنة الذكرية كونيّة فى المجتمعات المعروفة كلها، واعتبرنها فرضيات أبوية لإثنوغرافيى ومستقصى تلك الثقافات. حين راجعت الأنثروبولوجيات النّسويات المُعطيات، أو قمن بأبحاثهن الميدانية الخاصّة، وجدن أن الهيمنة الذكرية بعيدة عن كونها كونيّة، وجدن مجتمعات لا ينضمّن فيها اللاتماثل الجنسى معنى للهيمنة أو الخضوع. بالأحرى، إن المهمات التى أداها كلاً الجنسين جوهرية لبقاء المجموعة، واعتُبر الجنسان متساويين فى معظم الوجوه وموقعهما. وفى مجتمعات كهذه اعتُبر الجنسان «متكاملين»؛ إن دوريهما وموقعهما مختلفان ولكنهما متساويان.
كانت الطريقة الأخرى التى دُحضت بها نظريات الإنسان – الصياد هى عبر إظهار الإسهامات الثقافية الجوهرية والإبداعية التى قامت بها النساء فى إبداع الحضارة عبر ابتكارهن حرفة صنع السلال والخرافة ومعرفتهن وتطويرهن للبستنة . وقدْ أظهرت إليز بولدينغ (Elise Boulding)، بخاصّة، أن أسطورة الإنسان – الصيّاد واستمراريتها هى إبداعات اجتماعية – ثقافية تخدم مصلحة الحفاظ على التفوق والهيمنة الذكرية.