عندما تحرر نهر العلم من سدوده القوية، وغزت تطبيقاته أوروبا أول الأمر، بدأت الأفكار تتغير، لقد لمسنا بأيدينا ما عددناه سحرًا من قبل، وحينها ظهر نوع جديد من الأدب يسأل أسئلة عصره عن العلم والتكنولوجيا، والكتب التى حاولت توضيح تلك الأسئلة كتاب "مهندسو الخيال" تأليف ياسر أبو الحسب.
ومن تلك الأسئلة التى وضعها المؤلف ما هو منتهى تلك الاختراعات؟ وجرأنا العلم على طرح أسئلة قديمة، لكن فى رداء حديث: هل نصل إلى القمر يومًا؟ وهل يمكن أن يختفى إنسان عن نظر الناس وهو أمامهم؟ وهل نسافر إلى المستقبل؟ وهل … وهل… وهل …؟ كل هذا اقتحمه ذلك النوع الجديد بجرأة، فطرح الأسئلة وحاول إجابتها، وقدم للعلم خدمة عظيمة، كما قدم العلم له الكثير.
وبحسب الكتاب ظهرت هذه المحاولات فى شكل أدبى أطلق عليه لاحقًا "الخيال العلمى"، وصل لدرجة كبيرة من النضج مع كتابات الفرنسى جول فيرن والإنجليزى هربرت جورج ويلز، مع أنه من المجحف ألا نعتبر أن هناك من كتب فى الخيال العلمى قبلهم، فالبعض يُرجع الخيال العلمى لعصور أقدم بقرون من مؤلفات ويلز، منها مثلًا بعض قصص ألف ليلة وليلة، خصوصًا قصة الفرس الميكانيكى الطائر الذى لا يعتمد فى عمله على ظواهر خارقة مثل العفاريت والأرواح والسحر فى الطيران، وهو مزوَّد بأزرار ولوالب للهبوط والصعود، ويطير بأن يمتلئ جوفه بالهواء. وهناك أوصاف علمية أخرى تصلح لأن تضع القصة فى خانة قصص الخيال العلمي.
تطور الخيال العلمى بعد ويلز، وتعددت موضوعاته، وأصبح له فى الغرب عددٌ لا بأس به من الكتَّاب، وانتشرت تلك القصص بفضل المجلات المتخصصة بنشر تلك الأنواع من القصص بأسعار رخيصة، حتى صارت رواياته تتصدر فى أيامنا هذه قوائمَ المبيعات، وتجنى أفلامه أعلى الإيرادات.
بل وحاول كُتَّاب الخيال العلمى مناقشة آثار فلسفية وسياسية قد تنجم - مستقبلًا - عن ذلك التطور التكنولوجى المنتظر، كما فعل جورج أرويل فى روايته الشهيرة 1984، وألدوس هكسلى فى "عالم جديد رائع" وكما فى تلك الروايات التى تتناول الذكاء الاصطناعى المستقبلي، وتتناول كذلك تعريفات الذكاء والوعى والذات وحرية الإرادة، وغيرها من المفاهيم التى يتقاطع فيها الخيال العلمى مع الفلسفة، وقِس على ذلك المئاتِ من القصص التى لم تكتفِ بالتنبؤ العلمى، بل توسعت دائرتها لتشمل آثار ذلك العلم المستقبلى.
نعم عانى الخيال العلمى فى بعض محطاته من انحسارات؛ خصوصًا فى ستينيَّات القرن الماضي، وبالتحديد فى الولايات المتحدة الأمريكية، وإنِّى لأرى أن ذلك الانحسار إنما كان دليلا على أن ما كتب فى الخيال العلمى قبل ذلك قد حقق من أهدافه أكثرَ مما توقع كتابه، فقد تحققت نبوءات الخيال العلمى — كما يقول إسحاق أسيموف — لدرجة أن الناس لم يعد يبهرهم شيء، فتقنيات الخيال العلمى بدَت أمامهم ماثلة، يتعاملون معها يوميًّا، بل وصارت تُمثل جزءًا أساسيًّا من حياتهم، إلى أن تعافى مجددًا فى نهاية الستينيَّات بفضل كشوف علم النفس، والإنجازات المعلوماتية الكبيرة، فانطلقَت العقول مجددًا، غير هيَّابة، تخترق صحارى الخيال المجهولة.