لم تسقط الأندلس مرة واحدة، بل سقطت جزءا جزءا، واليوم تمر ذكرى سقوط مدينة قرطبة التى كان يطلق عليها "أم العواصم" ونتوقف مع كتاب "معارك العرب فى الأندلس" لـ بطرس البستانى الذى يتحدث عن هذه الفترة.
بدأت مآتم القواعد الأندلسية بسقوط طليطلة 1085م، ثم بسقوط سرقسطة 1118م، وبعدهما استخذت بطليوس لملك لاون 1230م، واليوم دور قرطبة أم العواصم، وحاضنة الأندلسيين فى الغرب، تخط الطريق لسقوط بلنسية 1238م، وإشبيلية 1248م، إلى أن يحين مأتم غرناطة آخِر معقل عربى فى إسبانيا المسلمة، فيغنى الشاعر الأندلسى مرثاته الأخيرة، يبكى بها نعيم الفردوس المفقود.
وجاء دور قرطبة، بعد أن مكثت خمسة قرون وربع قرن فى حوزة الإسلام، ترتد المسيحية عن أبوابها، وأمام حصونها تنحل عزائم الإسبانيين، شهدت عز عبد الرحمن الناصر والحاجب المنصور، فكانت كالعروس، حينًا بعد حين، تُجلى لتزف فى زينتها لنصر جديد. ما أكثر أعراس قرطبة، وأبهج أفراحها! الملوك تأتيها خاضعة، وإليها تُرسل الهدايا خاطبة وُدها، قوافل السبايا والغنائم معروضة فى أسواقها، يكاد لا ينقطع النداء عليها.
قرطبة دار العلوم، ومعهد الفنون والصنائع، حرم الجامع الكبير ذى السواري، والدة الزهراء ذات القصور والحدائق، تشع أنوارها على أوروبة فى دياجير القرون الوسطى، هى الآن فى مأتم بعد عرس كما قال البحترى فى الإيوان.
زالت عنها كلمة الموحدين بعد أن بات سلطانهم يتهاوى إثر موقعة العقاب، وران عليها سلطان محمد بن هود — من أعقاب أمراء سرقسطة السالفين — يضم إليه معها مُرسية وجيَّان، وماردة وبطليوس، متوسلًا بنقمة الأندلسيين على الموحدين، مناديًا بكفرهم، داعيًا إلى مقاتلتهم قتال الكفار، وتخليص الأندلس من طغيانهم.
وتلقَّب بالمتوكل على الله، ولبس السواد شعار العباسيين، معترفًا بخلافتهم، راجعًا بإمارته إليهم، ليسترضى جمهور المسلمين بعد خلعه خلافة المغاربة أهل التوحيد، فنجحت سياسته، وأقبل على مبايعته وطاعته أكثر الولايات الأندلسية.
ولكنه كان مضطرًّا - مع مغالبته القوى الموحدية فى دفاعها عن بقية سلطانها - إلى مقاومة الأمراء المسيحيين، وهم لا يفترون عن مناصبة الأندلس والإفساد فيها، فلم يُطِق منع ألفنس التاسع ملك لاون أن يفتح بطليوس وماردة وغيرهما من المدن والحصون، إلا أنه تمكن من الإيقاع بالموحدين، يساعده على ذلك ما بينهم من شقاق؛ إذ كان يتنازع الخلافة أميران منهم: أحدهما المأمون من ولد يعقوب المنصور، والآخر المعتصم بالله يحيى بن محمد الناصر.
كان ابن هود يناجز المأمون، ويعين عليه المعتصم أحيانًا، حتى استطاع أن يستلب من يده حكم الأندلس بلدًا بعد بلد، وحصن غرناطة فى الجملة 1230م، فألجأه إلى استعانة النصارى، فعل المرابطين والأمويين من قبل؛ فصار لدى خليفة الموحدين اثنا عشر ألفًا من مرتزقة القشتاليين لحماية مراكش ورد المعتصم عنها، ونزل المأمون لملك قشتالة — مقابل هذا المدد — عن بعض الحصون المتاخمة، ورضى بأن تُبنى كنيسة فى مراكش، وأن يؤذَن للنصارى بقرع النواقيس، ووعد بأن يدفع عنهم كل مساءة فى مملكته، وإذا أسلم نصرانى لا يُقبل إسلامه، وإنما يُقبل المسلم إذا ما أحب أن يتنصر.
غير أن الحامية القشتالية لم تقوَ على منع المعتصم من افتتاح مراكش، وتهديم الكنيسة التى بُنيت فيها، وتقتيل النصارى ونهب أموالهم، وكان المأمون يومئذٍ فى الأندلس، وليس بيده من مدنها الكبرى غير إشبيلية، فعبر الزقاق يريد إنقاذ عاصمة المغرب، فلم يُكتب له التوفيق فى محاربة المعتصم، فمات فجأة 1132م، وبويع ابنه أبو محمد عبد الواحد، فتلقَّب بالرشيد، وتابع مساورة المعتصم، إلى أن تُوُفِّى هذا بفاس 1236م.
وانقطع مُلك الموحدين — على إثر وفاة المأمون — عن سائر الولايات الأندلسية خلا إشبيلية وما إليها، فعاد سلطان محمد بن هود يشعل مالقة وألمرية وغرناطة وقرطبة ومرسية، ينافسه سلطان بنى الأحمر فى أرجونة ووادى آش وبيَّاسة وجيَّان، وبنو الأحمر قبيلة عربية ترفع نسبها إلى الخزرج، وعميدها محمد بن يوسف النصري، فاتفق هذا مع الإسبانيين على أن يمدوه بجيش لقتال ابن هود، وأن ينزل لهم عن بسائط الأندلس إذا استتب أمره فيها، فاغتنم هؤلاء الفرصة، مستفيدين من خلاف الأمراء المسلمين، وانتفاض بعضهم على بعض، فحشدوا جيشوهم، وراح جايم ملك أرغون يعيث فى إمارة بلنسية، وفردينان ملك قشتالة ولاون يخبط بعساكره إلى قرطبة، وكان هذا قد بلغ من القوة شيئًا عظيمًا؛ إذ تمكن أن يجمع قشتالة ولاون مملكة واحدة بعد تنابذهما؛ لارتباط نسبه بمليكهما، وانتقال إرثهما إليه.
ذلك أنه عندما تُوُفِّى ألفنس النبيل صاحب قشتالة، صار المُلك بعده إلى ولده هنري، وكان قاصرًا؛ فتولت الوصاية عليه أخته برنجاريا، ثم تُوُفِّى سنة 1217؛ فانتقل العرش إليها عملًا بوصية والدها، وكانت تعلم أن القشتاليين يكرهون حكم النساء، فلم تشأ أن تترك الملك مزعزعًا.
وكان لها أولاد من زوجها ألفنس التاسع ملك لاون، وقد طلقها هذا نزولًا عند أمر البابا لما بينهما من قرابة مانعة، إلا أن الأولاد اعتُبِروا شرعيين، فاستدعت ابنها الأكبر فردينان وتنازلت له عن العرش، فاغتبط القشتاليون لصنيعها، وبايعوا الملك الجديد وقدموا له الطاعة1217م، ولما تُوُفِّى ألفنس التاسع ملك لاون 1230م تحول عرشه إلى ولده فردينان الثالث، فاتحدت قشتالة ولاون وزال ما بينهما من شقاق وخصام.
وخفق لواء الملك الجديد على دولتين قويتين، تنضم إليهما إمارات إسترامادورة وجيليقية وأشتوريش، فأصبح خطره عظيمًا فى غاراته على الأندلس الإسلامية، واتجاه أنظاره إلى أم عواصمها قرطبة، بعدما تم له الاستيلاء على حصن أبدة 1233م.
وكان المتوكل بن هود يزحف يومئذٍ إلى غرناطة ليحارب منافسه ابن الأحمر، فلم يَفُتِ الإسبانيين الذين كانوا فى أبدة أن ينتهزوا الفرصة، وقد علموا من الأسرى المسلمين أن قرطبة قليلة أسباب الدفاع، وأن افتتاحها أمر ميسور، فأدلجت منهم كوكبة صغيرة، يسترها ظلام الليل، ويُخفى حركاتها انهمار المطر، حتى بلغوا الضاحية الشرقية من عاصمة المروانيين.
وأرشدهم الأسرى الخائنون إلى المواقع التى يصلح منها الصعود إلى السور، فنُصبت السلالم، وتسلق الجدران جماعة من الفرسان الأباسل، وكانوا قد استمالوا بعض حراس الأبراج بالمال، فكتموا أمرهم عن الآخرين، وأوهموهم — عندما سمعوا خفق أقدامهم — أنهم سرية آتية للتفتيش، فخدعوهم بذلك، ومكنوا أعداءهم من دخول أحد الأبراج، فامتلكوه وقتلوا حراسه.
ثم انحدروا إلى باب قريب ففتحوه لرفاقهم؛ فتسللوا منه إلى أحياء الضاحية يفتكون بالسكان الآمنين فتكًا ذريعًا، حتى تنفَّس الصبح وانتشر الخبر، فثارت الحامية فى وجه المغامرين فقاتلتهم حانقة، فطردتهم من الشوارع، وألجأتهم إلى التحصن بالبرج الذى سقط فى أيديهم.
فعلموا أن محاولة افتتاح مدينة عظيمة كقرطبة، بعدد قليل من الرجال، ضرب من الجنون؛ فهى من نفسها وحدها فى جحفل لجب — على حد تعبير أبى تمام — فأرسلوا يستنجدون قائد منطقة قرطبة الفابيريز ذا كاسترو، وبعثوا رسولًا إلى الملك فردينان فى لاون يسألونه الإسراع بالمجيء.
وما كاد يصل الرسول إلى القائد الإسباني، حتى خف إليهم بما استطاع جمعه من حاميات الحصون والقلاع، فأدركهم على عجل، وثبَّت مقامهم فى البرج يردون عنه المهاجمين، ويشرفون على قسم من الضاحية، إلى أن تأتيهم نجدة الملك وجيشه …
ولم يكن فردينان يتوقع هذا التوفيق العجيب فى قرطبة بكوكبة من الفرسان؛ فبادر إليها بثلاثين فارسًا، بعدما أصدر أوامرَ بحشد العساكر من المدن والقرى، واستدعاء جماعات الفرسان المنظمة، وأن يتبعه الحشد دون إبطاء.
ثم سارع بفرسانه الثلاثين إلى قرطبة، فابتهج الجند لرؤيته، واشتدت ظهورهم فى مقاومة المسلمين، فأحس هؤلاء الخطر المهدد، وتيقنوا أنه إذا لم يتداركهم ابن هود بقواته، دارت عليهم الليالي، وآضت قاعدة الملوك فى حوزة الأعداء، فطيروا الرسل إلى المتوكل يستحثونه لإنقاذهم قبل فوات الأوان.
ولولا خور العزيمة، وعقم فى الرأى لكان بوسعه أن يتدارك العاصمة، ويمنع استخذاءها، فالظاهر أن الانكسارات التى مُنِى بها فى محاربة المسيحيين، وما ناله — خصوصًا من فردينان الثالث — أضعف هِمَّته، وأوقع هيبة الإسبانيين فى نفسه، فلم يجرؤ على تلبية صوت قرطبة، قبل أن يتبين قوة أعدائه، ومبلغ ما جردوا لها من العساكر، مع أن الموقف حرج، فلا يحسن بأميرها أن يتركها تلاقى وبالها، وهو قريب منها، ولديه جيش كبير يستطيع الدفاع عنها.
ولم يقتصر على تلكؤه الذميم، بل قاده قِصَرُ الحيلةِ، وسوء طالع الأندلس، إلى أن يعهد فى استطلاع أحوال العدو إلى فارس جليقى اسمه سوارز، كان الملك فردينان قد نفاه عن قشتالة، فجاء برجاله إلى المتوكل، وجعل سيفه فى خدمته، شأنه شأن كثير من الفرسان المسيحيين والمسلمين، إذا خرجوا من بلادهم ناقمين على أمرائهم.
على أن هذا الفارس الجليقى لم يكن لينسى أن المهمة التى ندبه إليها ابن هود بكل سذاجة، يتوقف عليها خذلان ملته، وأبناء قومه، فغلت فى صدره عصبية الدين والوطن، ورأى الحال مؤاتية لاسترضاء مليكه والرجوع إلى أرضه؛ فوعد المتوكل بالخبر اليقين، وسار إلى فردينان، فأطلعه على واقع الأمر، وطلب إليه أن يضاعف نيران الأحراس ليلًا؛ ليوهم المسلمين بكثرة جيشه، واتساع المساحه التى يشغلها فى نزوله.
ثم عاد إلى ابن هود، وطفق يبالغ له فى وصف قوة العدو، وحسن سلاحه، والخطر الذى ينتظره إذا حدَّثتْه النفس بلقائه، وأراه بعينه اتساع نيران الحراسة وامتداد لظاها، فاستُطِير المتوكل، وداخله الذعر، فخام ولم يجسر على الإقدام، ونسى أنه مسئول عن مصير أم المدائن.
وفيما هو على هذا الحال من الاضطراب جاءه رسول من أبى جميل زيَّان أمير بلنسية، يستغيثه على جايم ملك أرغون، وكان قد أناخ عليه بقواته، فآثر ابن هود أن يدلف إلى غوث بلنسية لعله ينقذها من الأرغونيين، فيضمها إلى مملكته ويتقوى بها، ثم يرتد إلى قرطبة، فيُخرج منها القشتاليين.
ولكن التقادير جرت بغير ما فى الحسبان؛ فإنه ما كاد يبلغ ألمرية حتى اغتيل فمات خنقًا، ولم تنجُ بلنسية من يد ملك أرغون، وتُركت قرطبة وحيدة تدافع بشهامة هجمات الأعداء، وتلقى الهلاك باسلة لا تسلم إباءها للخنوع، إلى أن خاب أملها من المتوكل، وانقطع عنها رجاء كل نجدة، فعلمت أن المقاومة أصبحت لا تُجدى فتيلًا، وإنما هى انتحار ليس غير؛ فأفضل أن تفاوض العدو، فعساها تنال منه شروطًا شريفة مقبولة.