انفراد فى عالم الروائية سلوى بكر .. شعبان يوسف يتتبع تاريخ صاحبة رواية البشمورى

نقدم دراسة للناقد والشاعر شعبان يوسف عن الروائية الكبير سلوى بكر التى حصلت هذا العام على جائزة الدولة التقديرية، يرصد فيها المسيرة الطويلة نحو الإبداع، مسيرة وصلت لنحو 40 عاما، تألقت فيها سلوى بكر وحققت الكثير من الإبداع والفن. عام 1979: كان عام 1979 بالنسبة لى ولكثيرين من جيلى فى مجالى الثقافة والعمل السياسى، عاما مكثفا وحاسما وحاملا لأحداث كثيرة، وعلى الأخص هؤلاء الذين كانوا أدباء يكتبون الشعر والقصة والرواية، أو كانوا منشغلين بالسينما أو المسرح أو بالفن التشكيلى، وفى الوقت نفسه كانوا منخرطين وغارقين "لشوشتهم" فى العمل السياسى وفى أعلى وأحدّ صوره حتى الاعتقال، أى كانوا منضمين لتنظيمات سياسية سريّة معارضة لسياسات السادات العامة الوطنية والديمقراطية والاقتصادية، وكانت اتفاقية كامب ديفيد رأس القضايا التى انشغل بها التيار الذى كنت أنتمى إليه، وهو حزب العمال الشيوعى المصرى، وهذا لا يعنى أننا كنا غير منشغلين بالقضايا الديمقراطية الأخرى والاقتصادية التى كانت تفرض نفسها، لكن القضية الوطنية كانت قضية القضايا وقدس الأقداس فى ذلك الوقت. وكانت اتفاقية كامب ديفيد أثيرت بشكل عنيف فى أبريل من ذلك العام فى البرلمان، وتبلورت مجموعة من المعارضين لها بشكل قاطع، وكان على رأسهم المهندس محمود القاضى، والدكتور حلمى مراد، والأستاذ خالد محيي الدين وغيرهم، ووصل عدد المحتجين تحت قبة البرلمان إلى خمسة عشر عضوا من أعضاء مجلس الشعب، ونشبت معركة ضارية، انتهت بقرار من الرئيس السادات بإجراء استفتاء لحلّ المجلس، وبالفعل حدث ذلك بعد الاستفتاء فى 11 أبريل، وبعد سلسلة مهاترات التى جرت فى البرلمان وكتب عنها وسرد تفاصيلها المهندس محمود القاضى فى كتابه "البيوت الزجاجية"، وهو أحد صقور المعارضة فى ذلك الوقت، وتحدد بعدها ميعاد الانتخابات الجديدة فى يوليو 1979. قررنا فى ذلك الوقت ترشيح أحد العناصر الوطنية المعروفة بشكل نسبى آنذاك، وهو الأستاذ صلاح الدجوى، وكانت تربطنى بابنه علاقة طيبة، وكان عم صلاح عضوا فى حزب التجمع الوطنى الديمقراطى، وبالتالى كان لا بد أن يطرح أمر ترشيحه على قيادات التجمع، ولكن القيادة كانت لديها أسماء أخرى، ورفضوا رفضا قاطعا ترشيح صلاح الدجوى على قائمة التجمع، وهكذا قرر صلاح الدجوى خوض الانتخابات على برنامجنا "مستقل"، والذى لا مجال للحديث عنه هنا، وبدأت المعركة التى اصطف تحتها عدد كبير من الأصدقاء اليساريين ومن مختلف التوجهات السياسية التى كانت تعمل على الأرض آنذاك، أتذكر منهم الدكتور أحمد محيي والذى كان معيدا فى كلية طب عين شمس قسم فارما كولوجى، وعلاء زهيرى المعيد بتجارة الأزهر، والطبيب عادل العمرى وغيرهم من كافة الاتجاهات السياسية المختلفة، وفى تلك الأثناء اقترحت قيادة الحزب إنشاء تجمع سياسى جماهيرى تحت مسمى "التجمع الوطنى الديمقراطى"، وهو تجمع يضم المرشحين الديمقراطيين فى البرلمان، لكى يكونوا جسرا بين الحزب السياسى والجماهير، وطرحت أسماء من طراز فاروق عبد الحميد مرشحنا فى حلوان، وفتح الله محروس مرشحنا فى الإسكندرية وهكذا، وقد تم تكليف الصديق العزيز محمد عبد الفتاح الهادى من اللجنة المركزية والمكتب السياسى لكى يكون قائدا لهذا التجمع. وبغض النظر عن كل تلك الأحداث المزدحمة، وهذه الفكرة الرومانسية عن الحزب الجسر أو الوسيط بين القادة والجماهير، وبعيدا عن النتائج البرلمانية التى لم نحصل فيها على أصوات ذات أى وزن، كان محمد عبد الفتاح يكتب قصصا جميلة ذات حس أدبى واضح، وكان قارئا للأدب الطليعى بشكل ممتاز، وكان أحد القيادات الطلابية البارزة فى كلية تربية عين شمس، وكنت مرتبطا بمجموعة تربية عين شمس بشكل قوى، وكان صديقى العزيز محمد هاشم - ليس الناشر - أحد المثقفين والقيادات الجماهيرية الفاعلة آنذاك يلتقى بي بشكل دائم، حيث وفرّت له سكنا آمنا وبسيطا بجوارى هو وزوجته الراحلة وفاء عارف، وفى أحد الأيام ونحن ندرس النتائج التى جنيناها من معركة البرلمان، أو "الدروس المستفادة" كما كنا نطلق على هذا النوع من المناقشات حدثنى محمد هاشم عن صديقة اسمها سلوى بكر، وكانت سلوى فى ذلك الوقت قد أنهت دراستها بمعهد الفنون المسرحية، وحصلت على البكارليوس كما أفاد هاشم، وبالتالى فهى كانت تكتب مقالات فى نقد المسرح، وبصفتى كنت قد كلّفت من الحزب بإنشاء وتشكيل ما أسميناه آنذاك بـ "الجبهة الثقافية" بالاشتراك مع الزميلين كمال شعيب ومحمد فرج، مسئول التثقيف المركزى بحزب التجمع الآن، وكذلك كنت عضوا فى تحرير مجلة "كتابات" مع الشاعرين رفعت سلام ومحمود نسيم، وحددت مع العزيز محمد هاشم ميعادا لسلوى لكى ألتقى معها، وأحصل منها على مقالاتها، وأبلغته بأن الميعاد سيكون الساعة الخامسة على محطة مترو مصر الجديدة، بجوار سينما روكسى، وسوف أحمل فى يدى اليمنى مجلة الأهرام الاقتصادى، وفى يدى اليسرى شريط اسبرين ريفو، هكذا كان يلتقى الأصدقاء الذين لم يسبق لهم التعارف، وأخبرنى بعدها بيوم واحد أنه قد أبلغها بالميعاد بالفعل، كما أنها قالت له بأن الميعاد يناسبها، وذهبت فى الميعاد المحدد، وانتظرت أكثر من نصف ساعة، ولكنها لم تأت، وكان هذا الأمر بالنسبة لى مقدمة سيئة للغاية، لدرجة أننى اعتذرت لهاشم عن أى ميعاد آخر. لا أتذكر الآن بالضبط كيف التقينا بعد ذلك اليوم بأيام قليلة، وعندما تقابلنا تذكرت أننى رأيتها فى أكتوبر عام 1976 فى جامعة القاهرة، وذلك أثناء انعقاد "أسبوع الجامعة والمجتمع"، والذى شاركت فيه كل الأسر والجماعات الوطنية الديمقراطية بكل الجامعات المصرية، وعلى هامش المؤتمر كانت تقوم حلقات نقاش بين المشاركين فى المؤتمر، وحينها رأيت سلوى بكر وهى تطرح بعضا من أفكارها بشكل بدا عنيفا آنذاك، وأعتقد أنها انتزعت الكلمة بشكل حاسم، لأن الذى كان يدير حلقة النقاش قد تجاوزها أكثر من مرة، ولذا اضطرت سلوى أن تعلن رأيها بغض النظر عن التجاوز الذى فعله مدير الحلقة، وعندما ذكّرتها بذلك الأمر قالت كلاما كثيرا حول الحركة الطلابية ومحاولات التجهيل والتكريس التى تتم وفقا لمتطلبات لا تفرضها القيمة وأهمية الشخص الذى يتحدث، ولكن تفرضها صراعات سياسية خارج الجامعة، لذلك انتزعت الكلمة بعنف حتى تتصدى لمثل هذه المؤامرات الصغيرة. بعدما أخذت المقال من سلوى، وقد كان عن مسرحية "الزار" للراحل محمد الفيل، وأضافت سلوى بأنها تكتب قصصا أيضا تريدنى أن أراها، قالت ذلك وكأن كتابة القصة بالنسبة لها جاءت على هامش النقد المسرحى، وأتذكر أنها فى ذلك اليوم الأول من لقاءنا، حدثتنى عن أهم الكتب التى قرأتها، وركزّت على كتاب "اسخيليوس وأثينا.. دراسة فى الأصول الاجتماعية للدراما"، لجورج طومسون، ترجمه للعربية دكتور جواد الكاظمى، واستفاضت فى كيفية استفادتها من هذا الكتاب فى بحثها الذى كتبته عن نجيب سرور، وكان هذا البحث هو مشروع تخرجها، ولكنها لم تحتفظ بنسخة أخرى منه، وبالتالى ضاع ولم تستطع استعادته، ولكنها اكتشفت أنه نشر فى مجلة عالم الفكر الكويتية، ولم تثر القضية على أى مستوى، حيث أن اسمها فى ذلك الوقت، لم يكن مطروحا على الحياة النقدية، وبالطبع أثار ذلك اندهاشى. لم ينته لقاؤنا قبل أن تتوطد بيننا أواصر الصداقة، وتتعمّق بضعة خيوط فكرية، حيث أننا كنا أصحاب انتماء مشترك لحزب واحد، وانفتحت بيننا سلسلة أحداث ومعارك وأفكار وأخبار صغيرة فى الكواليس، ومن ثم اقترحت أن أزورها فى منزل العائلة، حيث أنها تسكن فى 5 شارع السوق القديم بحدائق الزيتون، وكانت فى ذلك الوقت تربطها علاقة قوية بالكاتبة والقاصة سهام بيومى، وكذلك بالعزيزة عائشة الخميسى، وعندما زرتها فى الموعد الذى حددناه، وجدت سهام وعائشة عندها، وكانت سهام تبحث عن مكان لكى تقيم فيه ندوات ثقافية بشكل مستقل، لأن الأماكن الرسمية كانت قد تقاعست عن مهمة إقامة ندوات جادة - كما قالت- ، وقلت لها أن تمهلنى وقتا حتى نفكر معا فى مكان لائق بما يتيح إقامة ندوات حرة ومستقلة، ومما لا شك فيه أن هذا اللقاء أكّد كثيرا من الانطباعات الأولى التى كانت قد ترسخت عندى من اللقاء السابق عن سلوى بكر، شخصية خفيفة الظل لمّاحة ومتدفقة فى الحوار، تتمتع بقدر كبير جدا من المرح والسخرية اللاذعة، مرح وسخرية يمتزجان بسخط عارم على كثير من الأمور السياسية والاجتماعية العامة، وكذلك الأحوال التى تمرّ بها التنظيمات السرّية، وحكت لى سلوى عن عملها فى ذلك الوقت، إذ كانت تعمل "مفتشة تموين"، مما أثار اندهاشى كثيرا، وحكت لى عن الحملات التى كانت تقوم بها مع فريق من ضباط قسم الشرطة والمخبرين، وقد تحول بعضها إلى قصص وحواديت ممتعة فى تلك الجلسة، واعترفت بأنها كانت "ركبها" ترتعد من رد فعل المخالفين للتسعيرة أو القائمين بالغش التجارى - الجزارين والبقالين - رغم أنها كانت تبدو قوية ومتماسكة أمام هؤلاء المخالفين، ولكن المناطق الشعبية التى كانت تداهمها، كانت تمتلئ بكثير من البلطجية و "رّدّ السجون"، لذا كان العمل شاقا ومزعجا ولا يتناسب على الإطلاق مع سيدة، وقد أجرى معها مؤخرا الكاتب الروائى حسن عبد الموجود حوارا حول هذه الوظيفة التى أفادتها بالتأكيد فيما بعد فى كتاباتها القصصية والروائية، وقبل أن أتركها أعطتنى كراسة خط مدرسية (تسعة أسطر)، وذات غلاف أخضر، وقالت لى: هذه بعض تجاربى القصصية، اقرأها، وقل لى رأيك بصراحة. عدت فى ذلك اليوم وكنت مفعما بقدر كبير من الامتنان والراحة لذلك الحوار المختلف والانسانى قبل أن يكون حوارا ثقافيا أو سياسيا أو فكريا، حيث إن سلوى كانت واضحة جدا فى كثير من الأمور التى كانت غائبة عنى فيما يخص العمل الحزبى، وكانت لديها ملاحظات كثيرة حادة، ولكننى أزحت كل ذلك عن رأسى وفتحت الكراس الذى بين يدىّ، ووجدت ثلاث قصص قصيرة، وكانت هناك قصة عنوانها "آلام ديدمونة"، وقصة أخرى تتحدث عن أحد الطلاب الذين شاركوا فى الأحداث الاحتجاجية فى الحركة الطلابية، وتم القبض عليه، وعندما قبض عليه، كان وكيل النيابة الذى يحقق معه، زميلا له منذ الطفولة، ولكن السنوات فرّقت بينهما، ولم يلتقيا إلا فى هذا الموقف، والقصة الثالثة لا أتذكر تفاصيلها ولا موضوعها، ولكن شيئا ما قد وصل لى من ذلك السرد الممتع، وهو أن سلوى بكر تملك طاقة سرد مذهلة ولا يملكها كتّاب كثيرون، وقررت أن أذهب بالقصص مع الصديق العزيز يوسف أبو رية، ونعطى القصص لصديقنا الكبير يحيي الطاهر عبدالله، وكانت تربطنى علاقة نصف سياسية بيحيي، حيث إنه كان يعرف علاقتى بحزب العمال، وكان يحيي محسوبا على الحزب دون أن يكون عضوا منتظما، ولكنه كان مرتبطا ارتباطا وجدانيا ببعض قادته، خاصة بالراحل خليل كلفت، والذى كان قد أهداه مجموعته القصصية الأولى "ثلاث شجيرات تثمر برتقالا". أعطيت يوسف أبورية المخطوط، وأعطاه بالتالى ليحيي، وعاد بعد بضعة أيام لينقل لى إعجاب يحيي بالقصص، وتبعا لذلك قررت أن ألتقى بيحيي فى أقرب وقت، وبالفعل التقينا فى أحد المقاهى الشعبية التى كنا نجلس عليها بجوار سكنه فى شارع عمرو بن العاص بحى مصر القديمة، وكان أول ماقاله لى قبل أن نجلس: "هذه كاتبة عبقرية، لغة وأسلوبا ومعجما وبنية، إنها امتداد طبيعى لعمود القصة القصيرة فى مصر"، واستوقفنى تعبيره اللافت "عمود القصة القصيرة فى مصر"، فاضطررت أن أوقفه عن الاسترسال، وسألته: ماذا تعنى بعمود القصة القصيرة؟، اعتدل يحيي فى جلسته، وارتشف "شفطة" من الشاى، وصرخ هاتفا: أصل انتم ماتعرفوش التاريخ، لو تتبعت تاريخ الفنون، وتاريخ القصة القصيرة بالأخص، ستعرف أنها لم تبدأ مع محمد تيمور فحسب، ولكنها بدأت من قبل ذلك بعقود، ولكنها اشتدت بشكل ما مع محمد تيمور وعيسى عبيد ومحمود طاهر لاشين، ثم يحيي حقى، وبعده يوسف إدريس ويوسف الشارونى، وبعد كل هؤلاء جينا احنا - وخبط على صدره بقوة وزهو - وعملنا تطويرات عظيمة فى هذا الفن، وهذه القصص - يقصد قصص سلوى - تعتبر الامتداد الطبيعى والصافى لتلك السلسلة الذهبية من الكتابة، وأتوقع لها مستقبلا عظيما"، وأردف يحيي: لكن من سلوى هذه؟، والذى يعرف يحيي يدرك أنه كان يسأل عن تفاصيل التفاصيل، وبالفعل سأل بدقة عن سلوى، قلت له: اسمها "سلوى بكر"، نظر لى بدهشة، وصمت لمدة دقيقة، وقال: "أعرفها جيدا، ولكنى لم أكن أعرف أنها تكتب قصصا، رأيتها فى جريدة المساء ومعها صديقة أخرى عند عبد الفتاح الجمل"، ولنا أصدقاء كثيرون مشتركون، وذكر خليل كلفت وإبراهيم فتحى وأسماء أخرى تنتمى لذات الاتجاه الذى ننتتمى له. طرنا، أبو رية وأنا لننقل لسلوى ماذا قال يحيي عنها وعن قصصها، وكانت سعيدة للغاية، وقالت بأنها تعرفه ويعرفها جيدا، وكعادة يحيي فعلاقته بالجميع شائكة، ولكنه عندما يتحدث عن الفن والكتابة، يكون شخصا آخر، ولا يعطى لصوته الشخصى أى سلطة، هكذا تلقيت يحيي بكل ما فيه من نزق شخصى، وتمرد اجتماعى، وسخط دائم، وغضب لا يتوقف عند حدود، ولكنه كان عادلا وشفّافا فى كثير من أفكاره النقدية التى كان يطلقها، رغم ما كان محاطا بقدر كبير من الوساوس، وهناك واقعة فى أواخر عام 1979 عندما عقدت لى أمسية شعرية فى أتيليه القاهرة، وكانت تديرالأمسية سلوى بكر، وفجأة ونحن فى منتصف الندوة، دخل يحيي، وأوقفنا عن الاسترسال وقال هاتفا فى دعابة: "كان ممكن أسمعك وأنا قاعد فى البيت، وكان صوتك هيوصلنى، ولكنى فضلت أن أراك صوت وصورة"، استوعبت سلوى الدعابة ومقاطعة يحيي، وقالت له فى لطف ومرح: "اسكت يايحيي، مش عاوزين شغب"، جلس يحيي منصتا وهادئا، وعندما بدأت المناقشة تحدث أحد الأصدقاء الشعراء، ووجّه لى نقدا يحمل بعض التحامل غير المبرر فنيا، هنا ثار يحيي ومار وخطف الكلمة دون أن يستأذن، وهذا يعنى أن يحيي كان غاضبا فعلا، وعندما يغضب يحيي فلا سقف لغضبه، ولكن سلوى استطاعت أن تسيطر على تلك الغضبة اليحيوية بهدوء، وخرجنا بعد الندوة ليقرأ لنا يحيي بعضا من قصصه التى كان يحفظها، وهذا يدل على أنه كان قد تجاوز غضبه. حكاية بسيطة: بدأت سلوى تأخذ مسألة الكتابة القصصية مأخذ الجد، وراحت تخرج مالديها من مخزون، وكان الفنان الجميل والقاص والفنان التشكيلى محمود بقشيش، يصدر سلسلة مطبوعات فقيرة، وكان يخرجها من الألف للياء، واقترح أن ينشر كراسة لها تجمع قصتين، كان بقشيش يساهم بنصف التكلفة، والكاتب_صاحب النص_ بالنصف الآخر، وبعد نشر الكراسة يبدأ فى توزيعها بسعر التكلفة فى هدوء ودون أى إزعاج، وكان سعر الكراسة لا يزيد عن عشرة قروش، وبالطبع كانت نشرات الماستر بلغت فى تلك الفترة ذروتها، كانت إضاءة 77، وكتابات، ومصرية، والكراسة الثقافية، وإلى الأمام، وغيرها من نشرات ثقافية وسياسية وإبداعية انفجرت على التوالى، وكانت آفاق 79 تتميز بأنها تنشر إبداعات فقط لكاتب واحد فى كل نشرة، الميزة الأخرى أن مشرفها كان الفنان محمود بقشيش فقط دون شريك له، وبالتالى فهى لا تعبر عن مزاج أيديولوجى، لذلك نشر بقشيش لجمال الغيطانى وفؤاد حجازى ويوسف القعيد وعلى سالم وسهام بيومى وآخرين. أعدت سلوى قصتين للنشر من بواكير قصصها "حكاية بسيطة، والزار"، وصدرت الكراسة فى أواخر عام 1979، كانت القصتان مثيرتين للجدل، خاصة قصة "حكاية بسيطة"، وهى تحكى عن سيدة أرملة، استقلّت إحدى المركبات العامة المزدحمة، وكان التداخل بين الناس لا يطاق، فى تلك الأثناء وقف خلف السيدة أحد الركاب، وراح يقترب ويبتعد ثم يلتصق، أى أنه يرتكب فعلا أقرب للاغتصاب العام والمعلن فى مركبة عامة وتقريبا على مرأى من الجميع، وبدأ البعض فى إعلان التذمر بطرق شبه متصاعدة، هنا انتبهت السيدة لتذمر الآخرين، بينما هى كانت شبه متواطئة مع ذلك الشخص، وانتفضت صارخة فى الرجل مستنكرة، وقامت بتوبيخه، وبعدها شقّت طريقها إلى النزول من المركبة، وهى تتذكر زوجها الذى حنّت إليه بعد واقعة الأتوبيس. رغم أن القصة بسيطة كما بدا فى العنوان، ومفرداتها معتادة كما اتضح فى السرد، إلا أنها كانت تحدث ومازالت فى الواقع، لكنها لا تثير كل ما أثارته تلك القصة القصيرة، أى عندما انتقلت القصة من أرض الواقع إلى إبداع وفن ولغة وأحداث فنية أثارت كل هذا الجدل، ولأن سلوى بكر كانت قادمة من قلب الحياة الاجتماعية المركبة، وكانت مدركة لها، ومن قلب الأحداث الشائكة على المستوى الاجتماعى والسياسى، فكانت القصة كذلك تعبر عن هذا الاشتباك بقوة ودون أى التباس، وبعيدا عن لغة الخطابة، فضلا عن تلك السخرية اللافتة، والتى صاحبت كتابة سلوى منذ تلك البداية حتى الآن، فلم تذهب سلوى فى بناء القصة إلى الشكلية المفرطة التى كانت سائدة آنذاك، وكان لها كهنة وحرّاس وجنود وخدم وزعيم ومراسم وحفلات تدشين، يطوفون حول معابدها فى المساء والصباح، ولم تخضع كذلك لتلك الواقعية المبتذلة التى حوّلت النصوص الشعرية والقصصية والروائية إلى هتافات صارخة لا تصمد بعد الانفضاض من قراءتها إلا زمن قراءتها فقط، فالنصوص التى كانت تزعم الواقعية، لم تكن إلا ذيلا ذليلا وتابعا مفرطا للسياسة، وأنا أتحدث عن نص لم يبرح ذاكرتى حتى الآن، وأظن أن من يقرأ كل نصوص سلوى بكر السردية، لا ينساها بكل تفاصيلها الدقيقة، وزخمها الجذاب، على الأقل هذا ماحدث ويحدث معى. لم تمر بضعة شهور أو أسابيع لا أتذكر على وجه الدقة، إلا وكان محمود بقشيش قد أصدر لها كراسة أخرى تحت عنوان "الخصبة والجدباء"، وكانت الكراسة تنطوى على قصتين جديديتين، وهما "الخصبة والجدباء، وتعالى ياشمس"، وتصدرت قصة "الخصبة والجدباء" الكراسة، وهى تحكى عن أم حائرة، إذ أن ابنتها المتزوجة تعانى من عدم الإنجاب، وبالتالى فهى لم تترك وسيلة حتى جرّبتها، ولم تترك بابا إلا وطرقته، ولم تنس شيخا مبروكا إلا وذهبت إليه، وكذلك كان زوجها يؤدى أدوارا شبيهة بطرق أخرى، إذ أنه أحضر ذات ليلة سحلية، وقبل أن يجتمع مع زوجته _حسب تعبير سلوى_ ألقى بالسحلية على زوجته لكى تحدث "الخضّة"، ومن ثم تنتج إثر تلك الخضة، تقلبات جسدية ينتج بعدها الحمل المرتقب أو المرجو، ورغم كل هذه الوسائل الغرائبية، إلا أن الحمل لم يحدث، حتى جاء يوم، وشعرت الأم_وياللدهشة_ بألم ما، ذلك الألم الذى عرفته من قبل أكثر من مرة، إنه ألم الحمل، وهكذا كانت الأم هى الخصبة، وكانت الإبنة هى الجدباء. لم تكن أفكار القصة هى السبب فى إثارة الجدل، ولم يكن توجهها الاجتماعى المحض هو الدافع لتلك التساؤلات التى قفزت فى الحياة الثقافية، وباعتبارى كنت شاهدا لتلك الفترة، كانت التساؤلات كثيرة، حيث أن سلوى لم يكن لها أى تاريخ إبداعى، فقط يعرفها المثقفون كواحدة من المشاركات فى الحياة السياسية والثقافية بشكل ما، وكانت بالطبع تشارك فى الندوات والفعاليات الثقافية من مقاعد الجمهور، ولكن صعودها إلى المنصة بهذه السرعة، يعود إلى الجرأة الفنية التى جاءت بها القصص، وكونها الامتداد لذلك الخط الواقعى فى أشكاله الطليعية، وهذا ما تبدى فى لغتها وأسلوبها وطعم كتابتها الخاص، ولذا تحددت ندوة فى مطلع العام 1980 لمناقشة الكراسة التى تحمل عنوان "الخصبة والجدباء"، ولم يكن سوى الناقد الكبير ابراهيم فتحى الذى ينتصر لكل التجارب الجديدة هو الضيف الرئيسى، وقمت أنا بإدارة الندوة فى حديقة أتيليه القاهرة، وقرأت على الحضور الكثيف الذى جاء للتعرف وللاحتفاء بموهبة جديدة وقوية قصة "تعالى ياشمس"، وتحدث ابراهيم فتحى بحماس شديد، ودافعا بقدر كبير من قوته النقدية العظيمة والرصينة فى ذلك الإبداع الجديد، وتحدث يومها عن قصة "الخصبة والجدباء"، وأشار إلى أن القصة تحمل ملامح واقعية بشكل واضح ولا التباس فيه، ولكنها تلك الواقعية الرمزية، حيث أن ابراهيم فتحى لم يكن يعتبر أن هناك واقعية مجردة أو مطلقة، بل هناك "واقعيات" مختلفة، ونوّه على أن الابنة ترمز إلى الجيل الجديد الذى مازال يبحث عن خلاص أو ثمرات لم يأت بها الزمان حتى الآن، أو أنه يبحث عن الأمل بطريقة خاطئة، ولكن الأم، فهى راسخة فى الإنجاز والإنجاب والتواصل، ومازالت تعطى وتثمر، واحتاط ابراهيم فتحى قائلا: إن ذلك الإبداع القصصى الجديد لسلوى بكر، هو امتداد عضوى وإيجابى ليوسف ادريس، ولا يمكن التعامل مع التفسير الواقعى الميكانيكى لتحليل ما كتبته سلوى بكر، وأضاف: ربما تتعدد الرؤى للأبعاد الرمزية التى تحمل صبغة واقعية واضحة، وكذلك لها جذورها الراسخة فى الواقع، ومن ثم فالقراءة مفتوحة ومحتملة على تفسيرات كثيرة ومختلفة، وهذا يدل - حسب الناقد - على أن موهبة جديرة بالتقدير نبتت بيننا. كانت أمسية استثنائية، وكان الزمن غير الزمن، وأتيليه القاهرة يفتح قاعاته للندوات الأدبية للأدباء الجدد والراسخين على حد سواء، وأذكر أن أمسيتين شعريتين أقيمتا لى دون أن يصدر لى ديوان واحد آنذاك، وهاهى ندوة تقام لكاتبة جديدة، ويحضر فيها جمهور واسع يبعث الأمل والثقة فى روح الكاتب، أتذكر أن هذه الأمسية التى أقيمت لسلوى بكر آنذاك، وحديث الناقد ابراهيم فتحى، ومناقشة الحضور النوعى، كانت دوافع قوية لبعث ثقة حيّة فى روح وموهبة الكاتبة، ومن ثم بدأت سلوى بشكل حاسم مشوارها ومشروعها الإبداعى الذى تطور بشكل مذهل وعظيم ومتدفق وبلا انقطاع حتى يثمر لنا سردية خاصة فى الرواية والقصة المصرية والعربية. مقهى على بابا: رغم أن تلك الفترة كانت ضاغطة على الكتّاب والمثقفين، وكان العام 1979 قد شهد قدرا كبيرا من القمع، وحدثت بعد الانتخابات البرلمانية مباشرة سلسلة من القبض على كثير من الذين شاركوا فى الانتخابات، واستهدفت المباحث آنذاك القبض على بعض الذين شاركوا فى المعركة الانتخابية، وسقطت بعض الأجهزة الفنية التى كانت تعتمد عليها الأحزاب السريّة المعارضة، ورغم هذا التضييق المفرط الذى كان قائما آنذاك، إلا أن المثقفين كانوا يقيمون ندواتهم الأدبية فى مختلف المنتديات والمقاهى، حيث كان أتيليه القاهرة يقيم ندوته الأسبوعية يوم الثلاثاء بدأب ملحوظ، وكانت ندوة فاعلة بشكل كبير، وكان بطل تلك المرحلة هو الناقد ابراهيم فتحى بشكل مطلق، وبالطبع كان نقاد آخرون يتواترون على ندوة الأتيليه، لكن ابراهيم فتحى كان ثابتا ومقاتلا بشكل واضح ومساندا لكافة التجارب الطليعية الجديدة، وكان قصر ثقافة قصر السينما فى جاردن سيتى كذلك يقيم ندوة أسبوعية كل يوم خميس، وكانت هذه الندوة مجالا واسعا لحضور كثير من المثقفين والكتاب الشباب مثل د رمضان بسطاويسى، والفنان رضوان الكاشف، والسيناريست جلال الجميعى، والشاعر محمد شرشر، وكانت تدور مناقشات جادة بين مختلف التيارات، ولا بد أن أنوّه هنا بأن ورشة الزيتون بدأت خطاها فى ذلك الوقت، ومقرها فى حزب التجمع شرق القاهرة، بمبادرة من دكتور فخرى لبيب ومنى، ولم تكن تحمل ذلك الاسم، بل كان اسمها الأولّى "النادى الأدبى الثقافى" هو الاسم الذى أطلقه دكتور فخرى، وشاركنا فى لحظة التأسيس مجموعة من الأصدقاء على رأسهم سلوى بكر وفتحى امبابى ومحمود نسيم وجمال زكى مقار وأسامة خليل وسهام بيومى وشوقى وشوقية الكردى وهدى توفيق وحسن بيومى ونهاد أبو العينين وغيرهم، وبعد عام أو عامين كان كل هؤلاء قد ذهبوا إلى مشاغل شتى، ولم يبق سواى وسوى الدكتور فخرى لبيب عليه رحمة الله، كما لا بد من ذكر لجنة الدفاع عن الثقافة القومية برئاسة الدكتورة لطيفة الزيات، وكانت تضم عددا كبيرا من المثقفين وأساتذة الجامعات مثل د عبد العظيم أنيس وحلمى شعراوى وصلاح عيسى وفريدة النقاش وأمينة النقاش وسيد البحراوى وعماد بدر الدين أبوغازى وبثينة كامل وسناء المصرى وغيرهم. وبالطبع كانت هناك منتديات أخرى تتسم بالكلاسيكية، مثل دار الأدباء ونادى القصة، ورغم أن دار الأدباء كانت تشهد حضور شعراء كبار من طراز أمل دنقل، إلا أن ماعدا أمل، كان الحضور من ذلك النوع الذى يؤثر السلامة بعد أن يلقى قصيدة أو اثنين وفقط، وكان أمل يحضر هذه الأمسيات فى دار الأدباء هو الدافع الأساسى لوجود شعراء آخرين ذوى ملامح جادة وجيدة، أما نادى القصة فقد كان دوره غائما، وكأن لا وجود له فى ظل حراك ثقافى واسع وعميق وحاد، ولكن مجلة النادى كانت تصدر، ولكن كان يسيطر عليها أدباء وزارة الثقافة. فى ظل ذلك الجو، كان الناقد الأدبى والأستاذ الجامعى الدكتور عبد المنعم تليمة، يقيم ندوة أسبوعية فى منزله بالدقى، وكان يحضر هذه الندوة رهط من الشعراء والمثقفين الشباب كل خميس، منهم الشعراء حلمى سالم وحسن طلب وماجد يوسف وغيرهم، وكان دكتور تليمة هو أحد المعلمين الكبار لجيل السبعينات، وكان كتابه "مقدمة فى نظرية الأدب" أحد المعالم النقدية التى تعرّف الشعراء والمثقفون الشباب على مفكرين غربيين كبار من طراز هنرى لوفيفر وأرنست فيشر وروجيه جارودى، كما كانت دروس تليمة الدائمة حول أن الفن موازاة رمزية للواقع، وأن الفن العظيم لا يكمن فى جماله فقط، بل يتجلّى كذلك فى نفعه، وبالتالى لم يكن تليمة هو المسئول عن البعد "الشكلانى" الذى ساد عند بعض الشعراء فيما بعد، وكان يفرّق دوما بين الشكلانى والشكلى، وكان ينتصر لمفهوم الشكل من الناحية الفلسفية، وكان تليمة دوما يمزج نظريات الأدب بأبعاد فلسفية أساسية عند مؤسسيها الأوائل مثل سقراط وأفلاطون، وكان له مقالان مهمان فى مجلة إضاءة 77 تحت عنوان "الشعر ينبئ ويتنبأ" أوضح فيهما كثيرا من تلك الأفكار التى كان يطرحها فى ندوته، وكان دافعا قويا لتطوير المفاهيم النقدية عند الشعراء، وكان يقول لهم دائما: "عليكم أن تكتبوا، وعلينا أن نقعّد"، ولذا كان الشعراء يدركون أن ناقدا كبيرا يقف خلفهم كجدار قوى لحمايتهم. رغم أن ندوة تليمة كانت عامرة بالأدباء والمثقفين، إلا أن فريقا آخر من الكتّاب والمبدعين كانوا لا يترددون على ندوته لدرجة المقاطعة، وعازفين عن الحضور عمدا، وهذا العزوف الحاسم كان نتيجة لتوجه تليمة السياسى الواضح، حيث أنه كان أحد قيادات ما أطلق عليه "التيار الثورى"، هذا التيار الذى كان يقوده بعض من شيوعيي الأربعينات مثل طاهر البدرى، ومحمد عباس سيد فهمى، الذى كتب كتابا تحت عنوان "من أجل وحدة وطنية"، وكان هذا الكتاب بمثابة المانيفاستو والبرنامج الذى اعتمده قياديو التيار الثورى، وهو كان يرى بأن السلطة السياسية تنطوى على اتجاه يمكن التحالف معه، أى أن التيار الثورى كان يطرح التحالف فى ظل أن غالبية الاتجاهات الراديكالية كانت تضع نفسها فى خندق المقاومة لتلك السلطة، لذلك أطلقت تلك التيارات مصطلحا تنمريا على التيار الثورى للتقليل من شأنه وتسخيف توجهاته، هذا المصطلح هو "تانت ثريا"، هكذا كان المعارضون يتربصون بأى خطأ أو رأى مختلف، كما ساد مصطلح آخر أطلق على حزب العمال الشيوعى الذى كان يضم أشرس العناصر الشيوعية "الأسياخ"، ليس نسبة إلى أسياخ الهند، بل نسبة إلى أسياخ الحديد الصلبة أو القاتلة، لكن كل ما تقدم لم يستطع التقليل من ندوة د تليمة، أو من تأثيرها البالغ فى جيل السبعينات. يبقى دور المقاهى الذى فاق وتجاوز أدوار منتديات وصالونات كثيرة، لأن المقاهى لم تكن منقسمة إلى منصة وجمهور وموضوع محدد ومواعيد حضور وانصراف وغيره من تمارين تفرضها الندوات والصالونات المنزلية، وكانت مقاهى أسترا أمام الجامعة الأمريكية، ثم سفنكس فى عماد الدين، وكان يجلس فيها ابراهيم أصلان وعبد الفتاح الجمل ومحمد البساطى وغيرهم، وبالطبع كان مقهى ريش الذى يجلس عليه مثقفون ومبدعون من طراز أمل دنقل ومحمد مهران السيد وابراهيم منصور وجميل عطية ابراهيم، وخلفه كان مقهى زهرة البستان قبل أن يأخذ الشكل الذى آل إليه الآن، كان مقهى محدودا، نجلس عليه جميعا، وكانت أسعاره رخيصة، وكان يوسف أبو رية يقول "مقهى البستان هو العمق الاستراتيجى لمقهى ريش، إذا ضرب مقهى ريش، ظهر مقهى البستان لنتمترس فيه"، وكان يجلس على البستان شوقى فهيم وصبحى مشرقى وسوريال عبد الملك وكذلك جميل عطية ابراهيم، وبراء الخطيب ومصطفى عبد العزيز وغيرهم. وبعيدا عن كل تلك المقاهى أنشأ ابراهيم فتحى ندوة على مقهى على بابا فى ميدان التحرير كل يوم أحد من كل أسبوع، ولهذه الندوة أهمية خاصة للغاية، إذ كان يحضرها المثقفون الأقرب قلبا وفكرا وتجربة من ابراهيم فتحى، منهم سعد صمويل "الفيشاوى"، والدكتور عاطف أحمد، والدكتورة هناء سليمان، والسيدة ضياء الخميسى، وسلوى بكر وكاتب هذه السطور، هؤلاء كانوا المتن الرئيسى للندوة، ولكنها كانت ندوة عامة، أى كان يحضرها مثقفون متفرقون من المصريين وغير المصريين، وكانت تدور فيها مناقشات كثيرة حول الأدب والفكر والثقافة بشكل عام، وفى هذه الندوة تشكلت ملامحنا، وتطورت خطوط كانت خاملة، كانت المناقشات تتعرض لكثير من القضايا التى كانت دائرة فى ذلك الوقت، وأعتقد أن كتاب "العالم الروائى عند نجيب محفوظ" لابراهيم فتحى كان مثارا لحوار دائم، وكانت سلوى تطرح أسئلة كثيرة تخص نجيب محفوظ ويوسف ادريس ويحيي حقى، وكان دكتور عاطف أحمد مشغولا بأفكاره العلمانية العميقة، وكان له كتاب مهم فى الرد على كتاب "التفسير العصرى للقرآن"، الذى كتبه دكتور مصطفى محمود، ونشره سعد صموئيل فى الدار التى كان يملكها ويديرها بنفسه هى "دار العالم الجديد". كانت سلوى فى ذلك الوقت قررت أن تعطى كل جهودها لعالم الكتابة، لقد اكتشفت نفسها بشكل عميق، وعملت على تطوير أدواتها الفنية فى ذلك الوقت القصير، وفى الوقت نفسه كان عملها كمفتشة تموين عائقا كبيرا فى ممارسة الكتابة، بل مواصلة الحياة نفسها التى كانت قد ضاقت على الجميع، وبعد أن توطدت علاقتنا بسعد صموئيل، اقترح عليها أن تذهب إلى بيروت، وبما أنه كان يعمل فى مجال النشر، وكان يذهب ويجئ بين القاهرة وبيروت، دبّر لسلوى عملا فى دار الفارابى، وقررت بعدها سلوى السفر. لم يكن السفر إلى بيروت يشبه السفر إلى بلاد الخليج، دول الخليج لا توفر الاستمرار فى الإبداع والكتابة، لكن الذهاب إلى بيروت كان قبلة كثير من المثقفين، هكذا سافر سمير عبد الباقى وعدلى فخرى وغالى شكرى ورؤوف مسعد وأحمد بهاء الدين شعبان وحلمى سالم وراوية عبد العظيم وعبد الرحمن الخميسى وكثيرون كثيرون سافروا إلى لبنان لكى تتوفر لهم حياة تضمن لهم مناخ الكتابة والنشر، لم يكن المصريون فقط هناك، بل كان الكثير من المثقفين العرب أيضا. فى تلك الفترة كان منزل عائلة سلوى بكر مزارا كريما لأصدقائها، واكتشفت أن أخويها محمد الأكبر، وأشرف الأصغر كانت لهما مشاركات ضالعة فى العمل السياسى، وبالتالى كانا يعرفان كل الأصدقاء الذين يزورون منزل العائلة، وهناك تعرفت على كثير من الأصدقاء والرفاق الذين لم أكن أعرفهم بشكل شخصى من قبل، كما أتذكر بعض الطرائف التى كانت تحدث آنذاك، ففى أحد الأيام كنا فى جلسة أصدقاء وصديقات، إذ طرق الباب، ودخل علينا شخص لم نعرفه للوهلة الأولى، كان يرتدى قبعة خواجات، ويرتدى نظارة غريبة الشكل، ويحمل حقيبة على كتفه غريبة كذلك، وعندما خلع ذلك الشخص كل أدوات التنكر، اكتشفنا أنه الشاعر أحمد فؤاد نجم، وكان فى ذلك الوقت هاربا من حكم سياسى بعام، وكان ذلك الحكم عقابا له على قصيدته الشهيرة "شحاتة المعسل"، وكان الاتهام الموجه إليه، أنه يقلّد فيها رئيس الجمهورية محمد أنور السادات عندما كان يلقى خطاباته، وواقعة أخرى أيضا تشبه تلك الواقعة، ولكنها تخصّ الناقد والكاتب السياسى والزعيم خليل كلفت، والذى كان محلا للبحث للجهات السياسية، وكتب عددا كبيرا ورصينا من التحليلات السياسية تحت اسم "صالح محمد صالح". كانت الفترة التى سبقت سفر سلوى، فترة مكثفة ومشحونة بالأحداث الثقافية والسياسية والفكرية، وكانت القاهرة تضجّ بالأنشطة والاحتفالات رغم كل التضييقات التى كانت تحاصر المثقفين والسياسيين، ولكن شحنة التعاون التى كانت فاعلة آنذاك، كانت دافعة للأمل، وأتذكر أننا كنا قد انتهينا من حفل سياسى فى المقر الرئيسى بحزب التجمع، كان حفلا حاشدا، والتقينا فى ذلك الحفل بالكاتب الروائى فتحى امبابى، وأخبرنا أن لديه رواية عن تجربته فى ليبيا، وأعطانى فتحى مخطوط الرواية الضخم، أخذتها بشغف وقرأتها، وبعد ذلك قرأتها سلوى بكر وتحمست لها، كانت الرواية هى الجزء الأول من رواية المؤسسة تحت عنوان "العرس"، رواية جذابة وفاتنة وجديدة، وبعدنا قرأها عدد من الأصدقاء على رأسهم ابراهيم فتحى، وتحمّس لها العزيز محمد بكر، وهو الشقيق الأكبر لسلوى كما أسلفت القول، وشرع فى طباعتها، وصمم لها الغلاف الفنان الليبى الطليعى عمر جيهان، وكانت هذه هى الرواية الأولى للكاتب الروائى فتحى امبابى. كانت كل المعطيات الاجتماعية والوظيفية والثقافية الضاغطة تعمل على تصميم سلوى على السفر، كانت إجراءات السفر فى ذلك الوقت عسيرة والتى تحيط بموظفى الحكومة، وذات خطوات بيروقراطية معقدة، ولكن تم حلّ وتذليل كل العقبات، وتحدد يوم السفر، وذهب رهط من الأصدقاء والمحبين والزملاء فى وداعها إلى مطار القاهرة فى مشهد مهيب، مشهد لا أنساه مدى حياتى، وأتذكر أن بعضنا بكى بشدة لهذا الوداع الصعب، ولكن إدراك هذا البعض أن سفرها سوف يدخل بعض مفردات النجاح والسعادة فى حياتها، سهّل من وقع عملية الفراق المؤلمة فى نفوسنا، وكانت تجربة أخرى بالفعل فى انتظارها، جادة وجديدة فى حياة كاتبتنا سلوى بكر، تجربة عاشتها سلوى بكل زخمها وزحامها وتقلباتها وآلامها وآمالها لتعود إلى مصر بشكل قاطع عام 1986 لتخوض معركة أخرى حادة ومشروعة وقاسية ضد إقصاء الكاتبات وتجاهلهن، معركة أساسها الإبداع والمثابرة فى مواجهة الشللية الوظيفية والسياسية والشخصية، وذلك دون التنازل عن تطوير كتابتها، وظلّت تنشر مجموعة قصصية تلو مجموعة أخرى، ورواية تلو رواية فى مسيرة حافلة بالعطاء العظيم الذى صمد بقوة أمام كل حملات الاستبعاد الخبيثة التى حدثت لها ولكثير من الكاتبات. كاتبات القصة القصيرة وعمليات الإقصاء: رغم أننى تعرضت كثيرا فى كتابى "لماذا تموت الكاتبات كمدا"، والذى صدر عام 2016 لعمليات الإقصاء التى حدثت فى القرن العشرين لكثير من الكاتبات والشاعرات، وكذلك عمليات التسخيف والتقليل من شأن إسهامات نسائية فى ثقافة القرن العشرين، منذ عائشة التيمورية، مرورا بملك حفنى ناصف "باحثة البادية"، ومى زيادة، وغيرهن، إلا أنى كلما اكتشف حالات استبعاد تعسفى للكاتبات أصبت بالدهشة والذهول، كنت أزعم لنفسى أن الشعارات المرفوعة عن تمكين المرأة، والمطالبة بحقوقها المهدورة، سوف تتحقق مع التقدم فى الزمن، لكننى أصاب تباعا بالإحباط كلما عثرت على وقائع إقصاء من قبل كتاب طليعيين بحق لكتابة المرأة، فمن حق الكتّاب والكاتبات نشر الإبداع مهما اختلفت التوجهات، وعندما فحصت عددا لا بأس به من المجموعات القصصية المشتركة فى عقد الخمسينات، لم أعثر على كاتبة واحدة ضمن المشاركين فى المجموعة، رغم وجود أسماء كثيرة من الكاتبات كانت تساهم فى الحياة الأدبية بشكل واسع فى الصحف والمجلات وإصدار المجموعات القصصية. وفى عام 1961 أصدرت الكاتبة الشابة "آنذاك" نوال السعداوى، وكان عمرها ثلاثين عاما، مجموعتها القصصية الأولى "وتعلمت الحب"، وكتب لها الأستاذ يحيي حقى مقدمة كريمة، أثنى فيها على الكتابة، وعلى الكاتبة الشابة، ولكنه أبدى بعض حذر وريبة من رفاقه الكتّاب، وقال بأنهم لن يتعاطفوا مع تلك الكتابة الجديدة التى تجعل من المرأة بطلا رئيسيا فى غالبية قصصها، وكان يحيي محقا فى ذلك، ولكن كان لسان حاله يقول بأن نوال السعداوى ستعانى كثيرا من التجاهل النقدى والاستبعاد، لأنها سوف تزاحم الرجال فى الكتابة القصصية، وتحققت نبوءة يحيي حقى بالفعل، إذ أن نوال السعداوى أصدرت فى العام نفسه 1961 مجموعة قصصية ثانية عنوانها "حنان قليل"، وفى عام 1963، وأصدرت مجموعتها الثالثة "لحظة صدق" بمقدمة ليوسف ادريس، وفى عام 1965 أصدرت روايتها القصيرة الأولى "مذكرات طبيبة"، ورغم كل ذلك، لم نعثر على مقال واحد جاد أو ذى شأن يناقش السعداوى فيما تكتبه، صمت شبه تام، صمت يصل إلى حد الخرس النقدى فى ظل حركة نقدية عارمة وصاخبة، ولم تشفع لها أربعة إصدارات لكى تدرج فى أى ملف قصصى، حتى العدد التاريخى الذى صدر عن مجلة "المجلة" فى أغسطس عام 1969 لم يحمل أى نص لنوال السعداوى أو لغيرها من الكاتبات، رغم أن رئيس التحرير نفسه هو يحيي حقى الذى انتصر لنوال فى أول كتاب لها، وهذا يؤكد على أن الأمر ليس شخصيا، وليس معركة بين رجال ونساء، ولكن منظومة العلاقة بين الرجل والمرأة التى تنطوى على كل تلك التعقيدات، وتشمل كل الظواهر الاجتماعية والسياسية والعائلية، بما فى ذلك بالتأكيد الظاهرة الثقافية والأدبية، ولا فرق هنا بين طه حسين الذى سحق درية شفيق دون أى سياق ديمقراطى، ووجه لها سبابا لا يليق بمقامه الفكرى الرفيع، وذلك ساعة اعتصامها مع مجموعة من السيدات فى نقابة الصحفيين عام 1954من أجل مطالب وحقوق المرأة فى الدستور، وكتب عنهن مقالين شديدى القسوة تحت عنوانى "العابثات 1، والعابثات2، وكذلك سلامة موسى الذى سخر من مى زيادة عندما زارها فى منزلها بعد عودتها من بيروت، وقال عنها أنها فقدت عقلها، لأنه لمح بعضا من فضلاتها والقذارة متراكمة على المقاعد فى شقتها،ورد هذا الحديث فى كتابه "تربية سلامة موسى طبعته الثانية عام 1958"، وبالطبع كتب العقاد أيضا فى تسخيف المرأة والتقليل من شأنها عندما نفى عنها صلاحيتها بشكل مطلق فى كتابة الشعر، ولكنه وافق على أنها _من الممكن والجائز_ أن تكتب فى الرثاء فقط، مثلما فعلت الخنساء فى رثاء أخيها، وعائشة التيمورية فى رثاء ابنتها، وماعدا ذلك فهى عاجزة عن الكتابة فى كافة أنواع الشعر السياسية والعاطفية والوطنية الأخرى، ورد ذلك فى كتابه "شعراء مصر وبيئاتهم 1937"، أى أنهن يصلحن ندّابات فقط، وفى الوقت نفسه قال بأنهن لا يصلحن إلا لكتابة القصص، على اعتبار أنها موضوعات وحواديت مسلية، ولا أريد استدعاء ذلك التراث الموجع فى استبعاد الكاتبات وإقصاءهن عن فردوس الكتابة الخاص بالرجال فقط، إنها ثقافة موروثة، وظلّت تعمل لقرون عديدة. ولم تكن مجلة "المجلة" الحكومية هى الوحيدة التى استبعدت الكاتبات عن المشاركة، ولكن فعلت ذلك مجلة "الطليعة" اليسارية التى أصدرت عددا فى سبتمبر 1969 تضمن ملفا كبيرا عنوانه "هكذا تكلم الأدباء الشباب"، وحمل شهادات أدبية مهمة ورصينة لواحد وثلاثين كاتبا، ولم يتضمن سوى شهادة وحيدة لكاتبة واحدة، وهى رضوى عاشور التى كانت كاتبة ناشئة لم تنشر ساعتئذ أى قصة من إبداعها، ولكن التعريف الخاص بها والذى جاء على صدر شهادتها يقول: نشرت مقالات متفرقة بالمجلات، وأعتقد أن تمرير شهادة رضوى له أسباب تتعلق بوجود دكتورة لطيفة الزيات التى شاركت فى إعداد الملف، ولا يتعلق بالقيمة، لكن تم استبعاد كل الكاتبات دون أى تنويه عن ذلك، كذلك جاءت مجلة جاليرى 68 الطليعية التى صدرت فى 1986، أنهت صدورها عام 1971، لم تحتوى فى كل أعدادها على نص قصصى لكاتبة على الإطلاق، فضلا عن ندرة الكاتبات بشكل يكاد يكون كاملا فى كل أعدادها! وفى واقعة أخرى نشرت سلسلة "كتابات معاصرة" فى ديسمبر 1968مجموعة قصص لمختلف التوجهات والأجيال القصصية فى مصر، بداية من محمود تيمور ويحيي حقى الأكبر سنا، وصولا إلى الكاتب الشاب محمد جبريل، ولكن المجموعة لم تنطو على قصة واحدة لأديبة راسخة أو شابة، وكتب دراسة نقدية تحليلية طويلة لغالى شكرى، وأصدرت السلسة مجموعة قصصية مشتركة أخرى تالية فى عام 1969، وكتب دراسة نقدية لها الأستاذ جلال العشرى، وكذلك جمعت المجموعة بين أجيال وتيارت مختلفة، وتجاهلت تماما كل الكاتبات، وخلت القائمة من أى كاتبات قصة، ولا بد أن ننوه أيضا أن مجلة الهلال فعلت الشئ نفسه عندما أصدرت فى عامين متتاليين عددين كاملين عن القصة القصيرة، الأول فى أغسطس 1969، والثانى فى أغسطس 1970، ولم يتطرق العددان إلى أى من كاتبات القصة القصيرة، لا نصوص، ولا إبداعات، ولا ذكر فى أى من المتابعات النقدية أى إشارة لأى كاتبة مصرية، وكأن مصر لا توجد فيها كاتبات، وجدير بالذكر أن الناقد عبد الرحمن أبو عوف أصدر كتابا عام 1971عنوانه "البحث عن طريق جديد للقصة القصيرة المصرية"، لم يأت فيه على ذكر أى كاتبة قصة بشكل مطلق، وتكرر هذا الأمر كثيرا فى صحف ومجلات وكتب، استبعاد تام، مما دفع كاتبا مثل يوسف الشارونى إلى إصدار كتاب مستقل، عنوانه "الليلة الثانية بعد الألف .. مختارات من القصة النسائية فى مصر"، صدر عام 1975، والكتاب ينطوى على جهد تجميعى مشكور، وضمّ قصصا لكاتبات من أجيال مختلفة، وقام يوسف الشارونى بإعداد ببلوجرافيا لكل الكاتبات اللاتى شملهن الكتاب، وهذه الببلوجرافيا لكل كاتبة من الطبيعى أن تكون مفيدة لأى باحث يريد أن يحصل على معلومات تخصهن، لكن الكاتب اقتصر على تقديم الكتاب بشكل أقرب إلى الشكل التحريرى لا التحليلى، وابتعد عن النقد الأدبى والمستفيض للقصص، رغم أن الشارونى كما كان قاصا كبيرا ومتميزا، كان ناقدا كبيرا كذلك، وهذا أضعف الإيمان فى ظل ذلك التجاهل الذى تفرضه تلك المنظومة الثقافية المركبة والظالمة. ولا أريد أن أستفيض فى ذلك المجال الذى لا تنتهى الشواهد المجحفة فى جنباته، ولكننى ذكرت ذلك التجاهل الذى أحاط بالكاتبات المصريات بشكل واضح، للدرجة التى تصل بأى باحث عندما يقلّب فى أرشيف الثقافة والأدب المصريين عبر عقود كثيرة، لا شك أنه سيقتنع بأن مصر تخلو من الكاتبات، وهذا ما أسفرت عنه دراسات أكاديمية جادة، أعدها باحثون ذوى ثقافة نوعية وعميقة، ولكنهم أغفلوا ذلك الجانب الإبداعى الذى يتعلق بالكاتبات، وسوف أتعرض لبحث واحد فقط على سبيل المثال، هذا لأن صاحبه كان مثقفا كبيرا منذ دراساته ومقالاته الأولى، أعنى الصديق والباحث والناقد الأكاديمى دكتور شاكر عبد الحميد رحمه الله، وقد أعدّ رسالة ماجستير عام 1980، عنوانها "سيكولو جية الإبداع الفنى فى القصة القصيرة"، والكاتب تلميذ مخلص للدكتور مصطفى سويف، وتعتبر دراسة دكتور شاكر نموذجية فى تحليل الأبعاد النفسية التى انطوت عليها كثير من القصص الكثيرة، ولكن سارت الدراسة وفقا للمنظومة التعسفية السائدة فى الدراسات النقدية، ولم تشمل أى كاتبة من مبدعات القصة القصيرة، ورغم أن الكاتب بعد حصوله على شهادة الماجستير، كانت لديه فرصة للحذف والإضافة قبل أن ينشرها عام 1993 فى الطبعة الأولى كمانوّه فى المقدمة، حيث أورد فقرتين قال في الفقرة الأولى: "تمت إضافة فصل يشتمل على عملية تحليل لمسودة قصة (طبلة السحور) للكاتب العربى من مصر عبد الحكيم قاسم، مع قراءة نقدية أدبية لهذه القصة، ثم أعقب ذلك التحليل السيكولوجى لتطور عملية الإبداع عبر مسودتى هذه القصة"، وقال فى فقرة ثانية: "أجريت مجموعة حوارات جديدة مع مجموعة جديدة من الكتّاب، لم تتح الفرصة للكاتب فى مقابلتهم خلال المرحلة الأولى التى أنجز فيها أطروحته، وذلك خلال الأعوام مابين 1978 _1980". أعيد وأكرربأننى لا أعنى كاتبا أو ناقدا أو باحثا بعينه، ولا أعنى أن هناك ترصدا بالتجاهل والاستبعاد، ولكن الأمر يتعلق بالمنظومة العرجاء التى تحيط وتتغلغل بحياتنا عموما، تلك المنظومة التى تقف خلف الأحداث والوقائع وتحركها وتديرها وتقودها وتترك بصماتها الثقيلة على كل تجلياتها، ومن الطبيعى أن يكون البعض مستثمرا بشكل واضح ماكينة تلك المنظومة، وهناك بعض آخر تهيمن عليك التقاليد والأعراف لكى يسلك مثلما سلك الأسبقون، بينما لو تمرّد أو احتج أو رفض قيم تلك المنظمة، ربما كنا حصلنا على نتائج أكثر عدلا وتقدما، فليس من المعقول أن يتفق الجميع على ذلك الاستبعاد الفادح للكاتبات، وليس من قبيل الصدفة أن تتضمن رسالة باحثنا الدكتور شاكر عبد الحميد على حوارات مع رجال فقط وهم على التوالى: إدوار الخراط وإبراهيم عبد المجيد وسعيد الكفراوى وجمال الغيطانى وعبده جبير ويوسف أبورية ومحمود الوردانى، هؤلاء فقط دون كاتبات بشكل قاطع!. هذا المناخ المعادى والقامع والطارد بشكل يكاد يكون ناعما، وكأنه متفق عليه دون عقود مكتوبة، ثمة تواطؤات غير معلنة، لكن المعلن _دائما_ شعارات شعارات شعارات للاستهلاك فقط دون تفعيل تلك الشعارات، هذا المناخ هو الذى ولدت فيه كتابة سلوى بكر الإبداعية، مناخ متربص بالمرأة، مناخ ينظر للكاتبات من عل، إلا من خضع للشلة أو الجماعة أو التوجه السياسى أو الجيتو أو السلوكيات الجارحة والخارجة، وهذه السمة الأخيرة سمة فاعلة فى واقعنا الثقافى الأعرج، وبهذه المناسبة كنت أقرأ لصديقنا المبدع السورى الراحل جميل حتمل قصة قصيرة، وفاجأتنى فقرة قاسية جدا فى القصة يقول فيها : "أنا أحب الحركة النسائية، شرط أن تكون فى فراشى"، ورغم طرافة العبارة من الناحية الأسلوبية، إلا أنها عبارة تنم عن فاشية ذكورية نائمة وكامنة تحت جلد معظم الكتاب الذين يمشون على الأرض مرحا وغرورا وذكورة وصلفا، وعندما أدهشتنى العبارة، عبّرت لسلوى عن سخطى على جميل وما كتبه، فانبرت سلوى وكتبت مقالا غاضبا فى مجلة الهلال تحت عنوان: "بعيدا عن فراشه". وأريد أن أختم هذه الكلمات بصدد الاستبعاد، بالنظر إلى مختارات فصول التى صدرت عام 1984، وهى من أهم السلاسل الأدبية التى أصدرتها الهيئة المصرية العامة للكتاب، وخاصة أن كاتبا بارزا كان يرأس تحريرها، وهو رجل لا نستطيع أن نتهمه بأى تعنت أو تزمت ضد المرأة الكاتبة أو المرأة عموما، ولكن المنظومة لحقت بخط سير الاختيار، فعلى مدى تسع سنوات، نشرت السلسلة واحد وثمانين كتابا، وأعلنت عن مجموعة أخرى فى طرقها للنشر، ليصل عدد الإصدارات إلى مائة وسبعة كتابا، ولم نلمح سوى ثلاث كاتبات مصريات فقط حظين بالولوج إلى جنة السلسلة، وهن على التوالى سحرتوفيق ورضوى عاشور وهالة البدرى، ثم جاءت كاتبتان: عالية ممدوح وليلى العثمان من الكاتبات العربيات!، فقط فقط فقط، أكاد أصرخ: فقط، لأدع مفردة فقط فى دائرة واسعة تشبه الجريمة، انظروا إلى النسبة المتحققة والمخطط لها فى نشر إبداع الكاتبات فى مجتمع يزعم فى الصباح امتشاقه لسلاح حرية المرأة وتكريمها، ولا ينام قبل أن يخدرنا بتلك العبارات الرشيقة عن حرية المرأة، الرجاء المقارنة بين عدد الكاتبات بالشكل الفعلى، بالنسبة المتحققة فى النشر، أى نعم انفتحت السلسلة فيما بعد قليلا، لكن حدث هذا بعد ضغوط قوية، ولو أجرينا ذلك الفحص الكمّى فى نشر الكاتبات، سنجد تلك النتيجة للأسف شاخصة أمامنا بكل وضوح فى مجالات ومؤسسات نشر أخرى، شاخصة بدرجة فادحة، ولكننا لا نتوقف كثيرا أمام تلك الظواهر التى تمرّ علينا دون أن نتأملها، هذا فضلا عن التعنت والتجاهل، حتى النقاد الكبار والذين نكنّ لهم احتراما ووقارا، لم يستطيعوا الخروج عن قواعد تلك العداءات الكامنة والخفية فى متن الثقافة المصرية والعربية للكاتبات، وتمنيت أن أقرأ لنقادنا الأفاضل مساحات من النقد لإبداعات كاتباتنا المصريات. مفاجأة زينات فى جنازة الرئيس: عندما ذهبت سلوى إلى بيروت، وبدأت تتعرف على الصحف والمجلات هناك، حيث بيروت الواحة العربية التى يتنفس فيها الكتاب والمبدعون بكافة الطرق الممكنة، كنا نتبادل الرسائل، ومازلت أحتفظ ببعض منها، رسائل تقطر حنينا، رغم الحياة الاجتماعية القاسية التى كان يعيشها الكتّاب والمثقفون فى مصر، وكانت سلوى تزور مصر فى تلك الأثناء لزيارة الأهل، وفى الوقت نفسه لتعدّ بعض الموضوعات للصحافة فى بيروت، أتذكر أننا ذهبنا معا لكى تجرى حوارا مع الشاعرة والأديبة جميلة العلايلى، والتى كانت تسكن بجوارى، وكنت على معرفة بذويها وبإبنها جلال، وجميلة العلايلى لمن لا يعرفها هى الشاعرة الوحيدة التى كانت فى جماعة "أبوللو" 1932، وكان قد قدمها الشاعر أحمد زكى أبو شادى وابراهيم ناجى فى مقتبل عمرها، ورغم تقدّمها فى العمر، إلا أننا ساعة ذهابنا إلى منزلها، فتحت لنا سيدة كانت تعمل مرافقة لها، رحبّت بنا، وأمهلتنا بعض الوقت فى انتظار الشاعرة، وانتظرنا بالفعل أكثر من نصف ساعة فى الصالون، حتى أتت الشاعرة فى كامل أناقتها وزينتها على مقعد متحرك، ومازلت أذكر لحظة خروجها من غرفتها مرحبة ومتهللة لتلتقى بنا فى الصالون، وما أقوله لا ينتمى للخيال، لا أعرف لماذا شعرت أن كتلة النور تتحرك نحونا فى ابتسامة مشرقة، وفى وجه عاشق للحياة قبل أن نتبادل عبارة واحدة، وبعد المصافحة الأولى، دار الحوار الذى قالت فيه الكثير، وأفصحت عن علاقة عاطفية كانت بينها وبين زكى طليمات، وأثمرت تلك العلاقة كثيرا من الرسائل الجميلة التى كان يرسلها لها طليمات، وأخذها منها فيما بعد الكاتب الصحفى لويس جريس لينشر بعضها، ويجرى حولها موضوعا صحفيا، ولكن لم يظهر أى شئ يتعلق بالرسائل فى المجلة، وكذلك لم تعد تلك الرسائل إليها على الإطلاق، وفشلت فى استعادتها بعد الإلحاح فى طلبها، وشعرت وأنا أشاهد الحوار بين سلوى وجميلة، كأن فتاة عثرت على خالتها بعد سنوات طويلة من الفراق، وكأنهن بالفعل قريبات، وبدا ذلك من خلال تلك الحميمية التى انبثقت فورا بين الكاتبتين، كأن سلوى ابنة شقيقتها كانت تختزن قدرا من الحنين إلى ذلك اللقاء، وهاهى الخالة التى انبرت لتحكى لها عن كثير من الأسرار والأخبار التى غابت عن سلوى فى ذلك البعد، ولا أعتقد أن سلوى نجحت فى نشر هذا الحوار، رغم جماله وأهميته وجدواه فى إلقاء الضوء على شاعرة وقاصة وروائية لعبت دورا محوريا فى مدرسة أبوللو، وفى مدرسة شعرية تركت أثرا فنيا مازال ماثلا للعيان حتى الآن فى الحركة الشعرية المصرية والعربية، رغم تقادم الزمن. الحرب: فى الرابع من يونيو عام 1982 اقتحمت القوات الإسرائيلية الغاشمة الجنوب اللبنانى، وعبرت القوات البربرية نهر الليطانى، واستطاعت أن تصل إلى أطراف بيروت، ذلك من أجل تدمير المقاومة الفلسطينية واللبنانية التى كانت تسبب قدرا كبيرا من الإزعاج لإسرائيل، وفوجئ الكتاب والمثقفون بذلك العدوان الهمجى، وعبّروا عن أنفسهم بشتى ما كان من متاحا من وسائل التعبير، كتب سعدى يوسف فى جريدة النداء بتاريخ 13 يونيو عن اقتحام كورنيش المزرعة فى لبنان: "منذ الساعة الثالثة فجرا، وهذا الطيران اللعين يحوم على العينين والأذنين، يحوم على الرأس المرهق، وحين يأتى الانفجار الذى نتصوره بعيدا، دائما.. يشعر المرءكما لو أن بضعة من جسده تحترق الآن، كم هى متعبة هذه القدرة على التصور!". نشط المثقفون والكتّاب فى المشاركة بأى قسط من المقاومة، وتأسست جريدة فورية بومية باسم "المعركة" لتغطية كل مايحدث فى الحرب، ولضخ روح العزيمة فى المقاتلين، وشاركت سلوى فى الكتابة بجريدة المعركة، وعاشت الحرب بكامل أهوالها كما عاشها كثير من المبدعين والمثقفين العرب، تلك الحرب التى انتهت إلى أن تلقى القوات اللبنانية الباسلة السلاح المقاوم، وتجريدها منه، كما طالب الجانب الإسرائيلى بإخراج المقاومة الفلسطينية تماما من لبنان، وتبعا لذلك إخراج كل المثقفين والكتّاب غير اللبنانيين الذين يعملون فى الصحف والمجلات ودور النشر والمؤسسات الفلسطينية كمؤسسة الهلال الاحمر الفلسطينى على سبيل المثال، وخرج المثقفون العرب من بيروت بعد مفاوضات صعبة، وكتب محمود درويش كتابه "سيرة بيروت"، كما كتب قصيدة مؤثرة عنوانها "الخروج": (قلنا لكم: سوف نخرج منا قليلا، سنخرج منا إلى هامش أبيض تتأمل معنى الدخول، سنخرج للتو، أبّ أبونا الذى فينا إلى أمه الكلمة وقلنا: سنخرج . فلتفتحوا خطوةً لدمٍ فاضَ عنِّا وغَطَّى مدافعكم . أوقفوا الطائراتِ المغيرة خمسَ دقائقَ أُخرى وكفّوا عن القصفِ ’ براً ’ وبحراً ’ ثلاثَ دقائقَ أُخرى لكي يخرج الخارجون وكي يدخلَ الداخلون..). خرج المثقفون والكتّاب من بيروت فى أغسطس وسبتمبر 1982، وذهب كل منهم إلى البلد الذى يستطيع أن يتنفس فيه، واختارت سلوى أن تذهب إلى نيقوسيا "قبرص"، وعاشت فيها بضعة أعوام قليلة، وتفرّغت تماما إلى مشروعها الإبداعى، وبدأت تنشر بعضا من ذلك الإبداع فى الصحف والمجلات العربية، وكانت أول قصة تنشرها فى مصر، نشرتها فى مجلة القاهرة، هى قصة "نونة الشعنونة" بتاريخ 10 ديسمبر 1985، هذه القصة التى أعلنت عن تطور مذهل حدث فى كتابة سلوى بكر، واستطاعت فى تلك السنوات القليلة التى غابت فيها عن القاهرة أن تطور كافة الأدوات الواقعية التى بدأت بها، واقعية تخصّها وحدها بعد استيعاب التاريخ الإبداعى لذلك الاتجاه، ولأن هذا الاتجاه كان يلفظ أنفاسه، ويلقى كثيرا من المطاردة، فكانت كتابة سلوى كذلك تواجه بالصمت، ومن ثم لم نجد ذلك التدشين الذى قوبلت به كتابات أخرى تمجّد اللغة المجردة عن سياقاتها النفسية والاجتماعية، اللغة الفارغة من مضمونها الدال، وهذا ما كانت كتابة سلوى بكر تتجنبه، اللغة عند سلوى بكر تحمل شحنات اجتماعية وفكرية وطقوسية وفلكلورية فاعلة، فالبطلة فى قصة "نونة الشعنونة" خادمة صغيرة، تتحرك فى خفة وعفوية مفرطة، ولكن فى ذكاء طبيعى دون أدنى افتعال أو تجمّل، أتى بها والدها من الريف، لكى تعمل فى أحد البيوتات الثرية فى المدينة، ولم تستغرب الطفلة ذلك المكان الفاره والمرفّه، القصة لم تنهض على تلك الفكرة التقليدية القديمة والسائدة، وهى اندهاش ذلك القروى الساذج البسيط بمفردات المدينة المعقدة، أو بمعنى أصح انسحاقه وانهياره أمام الزحام والأسانسيرات والعربات المكيفة، وضربت نونة الفكرة الأخرى التى تنبنى على تلك الغربة التى تداهم ذلك القروى فى شوارع العاصمة مثلما صوّره أحمد عبد المعطى حجازى فى قصيدته الشهيرة "الطريق إلى السيدة"، لكن نونة، والتى اسمها فى الأصل "نعيمة"، وهى تعتز باسمها الحقيقى، لكنهم أى أرباب المكان الذى تعمل فيه، يخترعون تلك الأسماء العجيبة، والتى لا تناسب مزاجهاـ ولكنها رضخت لذلك، كما رضخت لتقاليد وقواعد أخرى فى المنزل، حتى تستمر فى ذلك المكان اللطيف والمريح رغم متاعب العمل، ولا تعود لقريتها الكئيبة، تبدأ القصة بالشكوى المقدمة من والد نعيمة إلى قسم الشرطة، ومضمون الشكوى هو اختفاء نعيمة، وأدلى الجميع بشهادات عنها وتفصح عن شخصية شديدة الطموح والذكاء والحركة، ولديها رغبات خاصة جدا، تقول القصة: "ولا يمكن إنكار، أن البنت نونة كانت تعتريها رغبة خفية بأن تكون حلوة وزينة، ليست كزوجة الضابط، التى تحوز من الثياب أشكالا وألوانا، شيئا قصيرا، وشيئا طويلا، شيئا بأكمام، وشيئا بلا أكمام، ولكن حلوة كالمعلمة التى كانت تتخيلها فى صورة ست الحسن والجمال، كلما تناهى إليها حيث تقف فى المطبخ من وراء الشباك، صوتها الجميل، وهى تطلب من البنات الترديد وراءها (أيطلا ظبى وساقا نعامة)". اختلفت أقوال الشهود حول نعيمة، ولكنهم جميعا أصرّوا على أنها كانت صاحبة طباع غريبة، وجريئة، وطموحة، وعندما كانت تذهب وتجئ فى الشقة تسمع المعلّم "الخصوصى" يلقن ابن ربة المنزل درسا فى الحساب مثلا، وعندما سأله المعلّم مرة عن الجذر التربيعى ل25 لم يعرف الجواب، وعندما أجاب قال 425، كانت نونة قريبة منهما، فلم تصمت_لأنها مسحوبة من لسانها_، وأجابت منفعلة كما كانت المعلمة التى تراقبها من خلال شباك المطبخ، نيابة عن الولد قائلة "625 يامغفل"، هذا الانفعال جعل الصينية تهتز بين يديها وتكاد تسقط منها، والمدرس يقهقه، والولد يجرى خلفها، وتأتى سيدتها لتصفعها القلم الوحيد على وجهها، ولم تكرر صفعها مرة أخرى، لأنها كانت تحبها، رغم شقاوتها. وفى إحدى الفقرات تصف الكاتبة نونة التى وصفها البعض فى شهاداتهم بأنها شعنونة، ولها حركات غريبة، كما أنها ظلّت تتخيل "أيطلا ظبى" تلك التى كانت تنطقها المدرسة، وراح خيالها الطفولى يجرد بيت الشعر من جبروته اللغوى وقدسيته الفنية المتعارف عليها، ليخضع لذكاء وخيال ونزق وتمرد نعيمة، الخيال هنا مجرد حيلة لكى تقول الكاتبة بأن لا شئ له قدسية، ولا خلود لفكرة ما، ولكن الطفلة قادرة على إنزال أشياء كثيرة من عليائها، لتضعها على قدر استخدامها، وهكذا كانت نعيمة تحول العالم المركب والمعقد إلى مفردات طفولية جميلة وبريئة، عالم سلوى بكر يسعى إلى إرجاع الأشياء إلى براءتها، إنها رغبة عارمة لاستعادة الأشياء لحقيقتها التى تم تزييفها، وإضفاء الصدق بديلا عن الكذب والافتعال، لذلك تنطلق كل رغبات نعيمة المشروعة من خيال طازج يتطوح طربا بين كل الانهيارات المحيطة بها وبحال أسرتها البائس وبالطفل البليد والمدرس الذى يقهقه وسيدة المنزل التى تجرى خلفها لتصفعها فى أسى، كل ذلك يحدث حتى يأتى الوالد ليطرق الباب خفيفا وبحسابات الرجل الذى يشعر بالضعة، ويجد نعيمة قد كبرت وامتلأت قليلا، ونبت لها بروزان صغيران على صدرها، وبدون أى تمهيد يخبرها بأنه جاء من أجل أن يصحبها معه عائدا إلى البلد، وعندما سألته: لماذا؟، قال لها فى شبه سعادة: أن عريسا هناك ينتظرها، ويريد أن يريحها من ذلك الهم الذى تعيش فيه، لم تفهم نعيمة سوى أن والدها يريد أن يقطفها من ذلك البستان الذى كبرت فيه، ويخرجها من ذلك البيت اذى كبرت فيه، وراحت مواهبها تنمو بين جنباته، فاسترابت وأضمرت بينها وبين نفسها شيئا ما، ذلك الشئ الذى لن تخبر به أحدا على الإطلاق، وبعد أن أنهت كل أعمالها المنزلية الموكلة إليها، تسللت فى هدوء من البيت لتختفى تماما، ويظل اختفاؤها رمزا فى القصة على انهيار العدالة الاجتماعية بكل أشكالها، تقول الكاتبة ذلك دون صياح أو هتافات أو شعارات أو حتى تنويه تقريرى، سلوى بكر تمرّر ماتريد أن تقوله فى نعومة ممتعة، وأعتقد أنها تقهقه وهى تكتب تلك الشخصيات، هنا يتضافر الممتع والمفيد، الواقعى والرمزى، العام والتفصيلى، والقضايا الكبرى مع المفردات شديدة الصغر والمنمنات الاجتماعية الصاخبة. كان نشر قصة "نونة الشعنونة" فى مجلة القاهرة، بمثابة استعادة سلوى لمكانتها الأدبية، والإعلان عن ملامح وقسمات هذه الكتابة النوعية، وتمهيدا لانطلاقها المكثف فى عالم السرد، ومقدمة لإنجازات تبتعد عن التجريب المفتعل، ويقترب كثيرا من حد الضرورة، وصدرت أول مجموعة قصصية لها فى عام 1986، وهى "زينات فى جنازة الرئيس"، وتضمنت قصصا عمّقت من المنحى الذى بان وظهر فى إبداعها الذى نشر فى الصحف، فهى تطرح القضايا الكبرى من خلال منمنات صغيرة وشعبية، ولم تتضمن المجموعة كل إنتاجها المنشور منجما، ولكن القصص كلها كانت تسعى نحو اكتشاف ذلك الجمال الكامن فى البشر، وتلك القدرات المستبعدة، رغم البؤس الذى يحيط بهم، فبطلة القصة الرئيسية "زينات"، أو "زنات" كما ينطقها أبناء الحى الذى تسكن فيه، ذلك السكن_العشة، سيدة ليست فقيرة فقط، بل هى معدمة تماما، لا أهل ولا زوج لها، مقطوعة من شجرة، والحياة قاسية لدرجة قصوى، ولا أحد يطبطب على حد_بلغة الكاتبة_، لذا لم يكن سوى رئيس الجمهورية هو القبلة الأولى التى تتوجه إليها، ومن ثم تحدثت مع عبده المزين، ودار الحديث حول إمكانية كتابة خطابات لرئيس الجمهورية لكى يخصص لها معاشا رمزيا تستطيع أن تواجه به الحياة، وبالفعل كتب لها عبده أول خطاب، فلم يأت بنتيجة فى البداية، وبعد سلسلة خطابات، جاء الرد، وتم تخصيص معاش لها بلغ ثلاثة جنيهات كاملة، وبعد فترة وجيزة شعرت أن الجنيهات الثلاثة لا تكفى لسدّ المعايش، رغم أنها استطاعت أن تعدّل من ظروف عشتها، وتستكملها بالطوب، بدلا من الخشب والصفيح، فاستعانت مرة أخرى بعبده، وراحت تشاركه فى كتابة الخطاب، وتملى عليه كلاما خارجا من القلب للقلب، وبالفعل كانت تعيد تأليف الجملة مع عبده، حتى تكون الكلمات مؤثرة ويوافق الرئيس على رفع المعاش، وبعد إرسال الرسالة الأولى، علمت بأن الرئيس سيمر من أحد الشوارع الكبرى فى المدينة، وذهبت لكى تراه وتخاطبه عن قرب، أليس هو صاحب القلب الكبير الذى يرعى كل محبيه، وعلى رصيف الشارع وقفت حتى إن اقتربت سيارة الرئيس، قفزت من مكانها لكى تنقض على سيارتها، ففوجئت بكمية قبضات عنيفة تلكمها فى كل "حتة" من جسمها، وتعمل على إبعادها بقوة من المكان، فاعتبرت كل هؤلاء بمثابة "عزول"، وعادت إلى البيت حزينة ومنكسرة، وجاءت بعبده المزين لكى يكتب خطابا جديدا تطالب فيه حبيب القلب برفع المعاش، ولكنها لن تفوّت الفرصة، وسوف تحكى له عن تلك القلوب القاسية التى عملت على إبعادها بقوة عنه، هذه القلوب تعمل على قتل الحب الذى ينبت بين الناس. وأرسلت زينات الخطاب، وانتظرت بضعة أيام نتيجة ذلك الخطاب المؤثر الذى استخدمت فيه كل العبارات الممكنة لتحنين قلب الرئيس، وأرسلت عبده إلى البوستة لكى يسأل: هل من رسائل وصلت لها أم لا؟، وبالفعل ذهب عبده، ولكنه عاد مكفهرا، وعندما رأته راح يلطم مثلما تلطم النساء، وقال لها: إن الرئيس مات، لم تصدق، واعتقدت أنه جن، أو يهذى، أو شارب حاجة، ولكنها عندما أدركت صحّة الخبر حدث ماحدث، وجرت إلى الشارع، وذهبت إلى المكان الذى سيدفن فيه الرئيس، وتخيّلت أن رجلا كان يبتسم، فعضّته، ولكن الرئيس ظلّ يداهم ذاكرتها دون انقطاع حتى كادت أن تجن. أما قصة "أم شحتة التى فجّرت الموضوع"، فهى تسرد وقائع تلك السيدة المعدمة والفقيرة التى شاركت فى هوجة يناير، وصنعت الأحداث قبل أن يدرك هؤلاء المتعلمون فداحة ما يحدث، فحسين دياب الطالب الذى كان يحتفظ بكتب لينين وماركس فى غرفته، كان مندهشا لوجوده فى غرفة التحقيق، وتمنّت أم شحتة أن تكون مكانه، فهو لم يشارك فى شئ، ومن ثم تقول القصة أن الشعب بكل طوائفه هو الذى صنع تلك الأحداث، وفقا لما كان قد عبّر عنه أحمد فؤاد نجم فى إحدى قصائده عندما قال: (مين يصدق إن حس الشعب يسبق أى فكر وأى صوت) قصص سلوى بكر لا تنطوى على الحكاية، رغم أن الحكاية هى المتن الذى تقول الكاتبة خلاله أشياء كثيرة، بداية من المعجم، والأفكار، حتى النظريات الكبيرة تفككها إلى جمل وتعبيرات بسيطة دون أى تعقيدات، فإذا كانت تلك المجموعة الأولى قوبلت بردود فعل مختلفة، منها من استقبلها بترحيب شديد، ففى المؤتمر الذى أقيم فى منظمة المرأة العربية، شاركت الدكتورة فريال غزول ببحث عن المجموعة، وكتب الدكتور سيد حامد النساج، والدكتةر جلال أمين عن قصص زينات، وماعدا ذلك صمت النقاد الآخرون، مثل فاروق عبد القادر وادوار الخراط وآخرون، ولكن سلوى بكر لم تأخذ شرعيتها عبر هؤلاء النقاد المهيمنين على مقدرات الحياة الأدبية، ولكنها وصلت للقارئ الذى لا يعتم بما يشرّعه هؤلاء النقاد، ويعملون على تكريس كتّاب فى مواجهة واستبعاد آخرين. فى العام التالى 1987 أصدرت سلوى مجموعتها الثانية "مقام عطية وقصص أخرى" عن دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع، وهى عبارة عن رواية قصيرة وثلاث قصص، الرواية هى "مقام عطية"، والقصص الثلاث "إحدى وثلاثون شجرة جميلة خضراء، بساط الريح، كيد الرجال"، وكما فعلت سلوى فى كثير من قصصها، وهى اختيار شخصيات نسائية متمردة طوال الوقت، شخصيات تعرّض نفسها لكثير من الأخطار الصغيرة والكبيرة، فرواية مقام عطية، تبدأ باستدعاء صحفية شابة اسمها عزة فهمى فى جريدة الصباح، وتذهب ليستقبلها رئيس التحرير ومدير التحرير بحفاوة لم تعتد على مثلها، فمدير التحرير على وجه الخصوص دائما كان يدسّ لها الدسائس ويحيك لها مؤامرات صغيرة، ولكن فى هذا الصباح راح يتمسّح بها، ولم تنتظر وقتا طويلا حتى علمت بأنها مكلّفة بمهمة ذات شأن كبير، والمطلوب منها أن تعدّ تحقيقا موسعا حول اللغط الذى أثير مؤخرا حول مقام الست عطية، ذوراحت عزة تتساءل بينها وبين نفسها: "..لماذا أنا بالذات التى اختيرت للقيام بتلك المهمة، دون المائة والخمسين محررا، الذين يعملون فى المجلة؟ لا أدرى كان الأمر غريبا وغير مفهوم بالنسبة لى، فأنا لست على علاقة طيبة برئيس التحرير، أو مدير التحرير، أو حتى رئيس القسم الذى أعمل فيه، حتى يمكن اختيارى لعمل مثل هذا الموضوع الخطير جدا والخاص جدا كما قال لى كل من الرجلين..". أخذت عزة الموضوع على عاتقها، وذهبت فعلا لأطراف الموضوع، فالأمر يتعلق بتلك السيدة التى تدعى عطية، والتى توفت قريبا، وعندما ذهب ابنها المهاجر والذى جاء من أمريكا لزيارتها فى المقبرة، اكتشف أن المقبرة مفتوحة، وأن الجسد لم يتحلل، وأن نبتة خضراء قد انبثقت فى المقبرة، وبالتالى كان الأمر ينطوى على ألغاز، وقيل بأن لا بد من الحفر لاكتشاف تلك الألغاز، ربما يستطيع الحفارون أن يكتشفوا بعض مجهولات فى المقبرة. بالطبع لم يكن صوت عزة فهمى، إلا صوت المؤلفة، والتى كانت مهمومة بسؤال: هل هناك ألغاز بالفعل تحيط بالمقبرة، وبالتالى راحت تأخذ بعضا من الشهادات من الذين كانوا على قرب وإحاطة بالسيدة عطية، هل هى كانت مبروكة بالفعل؟، هل كانت خيرة حقا؟، أم هناك بعض الاختراعات لتبرير أفعال تتم تحت شعارات مضللة؟، وجدير بالذكر أن المجلة تحفّظت على التحقيق الذى أجرته المحررة، ولذا قررت الصحفية نشر الموضوع لمن يهمه الأمر، والأهم من كل ذلك أن القصة كلها ليست إلا حيلة فنية من أجل تمرير كثير من الأفكار التى تحملها المؤلفة نفسها، دون أن تكون تلك الأفكارعقبة على بناء القصة، ولست من أنصار الذين يدينون السارد عندما يتوحد صوته مع صوت البطل، إلا إذا كانت أفكار الكاتب مفتعلة ومقتحمة لبنية النص، وهنا لا بد أن أنوّه أن كثيرا من الأفكار التى تحملها أبطال قصص سلوى بكر، هى أفكار الكاتبة نفسها، وهذا ما ندركه فى كافة القصص التى أبدعتها الكاتبة فيما بعد، وهذا لا يعنى أن الشخصية التى تتحدث فى النص أعلى أو أقل من الأفكار التى تأتى على لسانه، فمهما حاولنا إجراء فصل نقدى بين الكاتب وشخصياته، لا بد أن نجد تماسا بينهما، وهذا ما أخذه فاروق عبد القادر على الكاتبة عندما كتب عن رواية "العربة الذهبية لا تصعد إلى السماء"، وقال بأن صوت الكاتبة كثيرا ما يقتحم أصوات الشخصيات، واعتبر ذلك مؤثرا على البناء الخاص للرواية، رغم أنه قدّم قراءة إيجابية للغاية فى الرواية "كتاب: من أوراق الرفض والقبول ص253". وعندما نتأمل القصة التالية لتلك الرواية القصيرة، وهى قصة "إحدى وثلاثون شجرة خضراء جميلة"، نلاحظ أن البطلة تتحدث عن الجمال المفقود فى تلك المدينة الحجرية، ورغم أن القصة مكتوبة منذ خمسة وثلاثينة عاما، إلا أنها تتنبأ بما وصلنا إليه من عدوان على عالم الأشجار، فالفتاة التى كانت تذهب يوميا إلى العمل، كانت تحصى الأشجار بشكل آلى، وعندما اكتشفت أن الأشجار نقصت واحدة، أصيبت بالهلع، ثم بدأت الأشجار تتناقص يوما بعد يوم، حتى اختفت الأشجار كلها من الشارع، فأصيبت بحالة من الجنون، فضلا عن كافة أشكال الحصار الأخرى، هذه الروح التى صاحبت تلك القصة، ظهرت مرة أخرى فى قصتها "كل هذا الصوت الجميل الذى يأتى من داخلها"، والتى تضمنتها مجموعتها الثالثة "الروح التى سرقت تدريجيا"، والتى صدرت عام 1989، إذ استيقظت "سيدة" _وهذا هو اسمها_ ذات صباح لتكتشف فجأة أن صوتا جميلا يخرج منها على غير العادة، ووجدت نفسها مقبلة على الغناء، ذلك الصوت لم تكن نعرفه على الإطلاق، وتبدأ سلوى قصتها كالآتى: "بدا كل شئ طبيعيا، وفقا لطقوس اليوم المعتادة، الحجرات مرتبة ونظيفة، الأطباق على المائدة تنتظر الطعام، بينما صوت المذياع الخفيض يثرثر بانباء مابعد الظهيرة، التى لا تتغير عادة، لكن عبد الحميد شعر بأن ثمة قلقا يهيمن على زوجته، ويجعلها تدس رأسها بين كتفيها، أكثر من المعتاد، وهى تزدرد الطعام، ولا تجاريه فى الكلام، كما يجب، فسألها: _مالك ياسيدة؟! _أبدا." تجيد سلوى بكر تصوير المشاهد العائلية فى كافة أحوالها الدرامية والفكاهية والانسانية، فبعد شد وجذب وتشويق ومحاولة الزوج معرفة ماذا يقلق سيدة، بعد أن "ضرب أخماسا فى أسداس"، هل هى حامل؟، وإن كانت كذلك، سوف يجبرها على الإجهاض، هل هى تريد أموالا؟، وهذا أيضا أمر مستحيل، ولكنه فاجأته بأن الأمر لا يتعلق بهذا ولا ذاك ولا تلك، ولا أى حاجة من تلك الأفكار التى دارت فى رأسه، إذن ماذا؟، هنا استجمعت سيدة شجاعتها وقالت له: _بلا حمل بلا كلام فارغ، الموضوع إن صوتى أصبح جميلا جدا. تستكمل سلوى: "سمّر عبد الحميد نظراته عليها لثوان، ظل خلالها حائرا، ثم انفجر ضاحكا ضحكا هستيريا، كمن سمع لتوه نكتة لا نهاية لها، بينما دفقات الدم تتصاعد بحدة إلى رأسه، فتجعل وجهه المنفتح أشبه ببالون أحمر على وشك الانفجار، وبقيت قسماته وأسنانه تتبادلان الحركات فى موجة مستمرة من الانفعالات.." هكذا حدثت أول مواجهة بين سيدة وعبد الحميد، بين واحدة فاجأها الجمال ذات صباح بشكل مفاجئ، وراحت تعبر عنه لأقرب الناس، وكان أقرب الناس، هو أبعدهم فى فهمها، ولم يفعل شيئا سوى أن يصطحبها إلى الطبيب، وربما سيوافق على وضعها فى مشتشفى الأمراض العصبية، لم يكن الطبيب أقل قسوة من الزوج، بل عزا الأمر بأنها تعانى من إجهاد عصبى، وبالفعل كتب لها روشتة علاج تحتوى على حبوب وسوائل، لم تسكت سيدة، بل إنها لجأت إلى البقال، وراحت تقول له الخبر فى سرية تامة، وكأنه تخصّه بالخبر، ولكنه بوغت، وهيمن الصمت عليه، ولم يضحك، ولكنه أعطاها زجاجة ليمون ربما تعمل على تهدئة أعصابها، هكذا ووجهت سيدة الباحثة عن الجمال بمجتمع رافض أى جمال، أو بحث عنه. كانت هذه القصة ترسم مايشبه اليوتوبيا، ولا بد أن أذكر أن ابراهيم أصلان كلما جاءت "سيرة" سلوى بكر بيننا، أطلق أشكالا كثيرة من الإعجاب وافتتانه بتلك القصة، بل عندما أرادت "دار المرأة العربية للنشر ..نور" تنشر مجموعة مختارة لكاتبات عربيات، وضعت عنوان هذه القصة لتلك المختارات، وقدّمت دكتورة لطيفة الزيات دراسة نقدية عن المختارات، ومن دراستها نقتطع بعضا مما كتبته عن تلك القصة: "..وتقف سلوى بكر إزاء إمكانيتين لإنهاء قصتها، فإما أن تنطلق سيدة محطمة للقوالب الاجتماعية التى تحبسها، وتنطلق تغنى مغتنة ومغنية للآخرين رغم كل العوامل القاهرة التى تحاول إحباطها، وإما أن تتراجع تحت وطأة هذه العوامل مندرجة، وقد فقدت الثقة نفسها وإمكانياتها الفردية، فى قالبها الاجتماعى كست بيت من جديد.."، من المجموعة المختارة ص 23. لا تريد هذه السطور أن تنتهى، رغم أننا لم ندخل إلى عالم سلوى بكر المدهش والضرورى والمفعم بكافة صورنا الاجتماعية الطبيعية، سلوى لا تخترع أحداثا، بل تكتشف تناقضات كامنة فى الحياة التى نحياها، تكتشف ذلك دون أن أدنى قيود تحد من قدرتها على ممارسة حرية الكتابة، فهى كما تقول فى شهادة كتبتها فى مجلة فصول خريف 1992: "لا يلزمنى، كى أكون كاتبة حرة، أكثر من ترك العنان لخيالى، يذهب كيفما شاء دون حدود أو سقوف، ثم خط ذلك الخيال على الورق، فيقبله أو لا يقبله الآخر بمعزل عن شخصى وذاتى" ص154 هكذا تعبر سلوى عن نفسها، وهى لا تخترع الأحداث، ولا تستدعى أشكالا من الكتابة الخارجة بقوة عن السياق، ولكنها تكتب ماهو ضرورى بالفعل، أجدنى أؤكد على ذلك أكثر من مرة، وهى تقول فى تلك الشهادة أيضا: "ورغم أننى لا أحبذ الكتابة فى مناطق المحظورات، إلا أننى لا أدين سلفا أى كتابة تأتى فى هذا السياق، ولا أقدس سياسة التلميح دون التصريح فى الأدب..". هكذا طرحت سلوى مشروعها الإبداعى الكبير، والذى لا تستطيع تلك السطور أن تشمل كافة جوانبه، أو بعض جوانبه، ولكننا أردنا أن نستدعى الخلفية التاريخية لذلك الإنجاز الأدبى الفريد، والذى للأسف تجاوزه نقاد يملكون طاقة المنع والمنح فى حياتنا الثقافية، وتجاوزته كذلك جوائز كان يستحقها ذلك المشروع من زمن، ولكن دعنا نقول بأن الجوائز لا تصنع كاتبا، ولا تنصفه، ولكن الذين أنصفوا سلوى بكر وإنجازها، هم القراء الذين لا تشغلهم تصنيفات وتحزبات وتخرصات وانحيازات من يطلقون على أنفسهم "النخبة"، فشرعية وجود منجز سلوى بكر، جاءت من خارج تلك الجماعة التى جعلت من نفسها جماعة ضاغطة، وبالتالى لم تتوقف عندها إنجازات سلوى بكر التى أنجزت مجموعات قصصية وروايات عظيمة سنعود إليها لاحقا، وعلى رأسها رواياته: العربة الذهبية لا تصعد إلى السماء، البشمورى، ليل ونهار، سواقى الوقت، وصف البلبل، كوكو سودان كباشى..، وغيرها من نصوص، نالت قدرا كبيرا من احترام قارئها الطبيعى.


































الاكثر مشاهده

"لمار" تصدر منتجاتها الى 28 دولة

شركة » كود للتطوير» تطرح «North Code» أول مشروعاتها في الساحل الشمالى باستثمارات 2 مليار جنيه

الرئيس السيسى يهنئ نادى الزمالك على كأس الكونفدرالية.. ويؤكد: أداء مميز وجهود رائعة

رئيس وزراء اليونان يستقبل الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي محمد العيسى

جامعة "مالايا" تمنح د.العيسى درجة الدكتوراه الفخرية في العلوم السياسية

الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي يدشّن "مجلس علماء آسْيان"

;