عاش الكاتب الروسى أنطون تشيخوف (رحل فى 29 يناير 1860) حياة قصيرة، لكنها غنية بالأعمال الأدبية، أربعة وأربعون عاما أثرت في العالم لعشرات العقود، بدأ حياته بالمعاناة من الفقر الشديد وأنهاها بالصراع مع مرض السل، فكيف سيكون أدبه؟
عندما تقرر أن تقرأ لتشيخوف المجلد الأول والثانى من أعماله الصادرين عن دار نشر الشروق، تجد نفسك تتقدم تجاه الواقع بخطى ثابتة، لا مجال للخيال الشاعري أو عالم المشاعر الوردى، ستتفاعل حتما بعقلك وقلبك ولكن ليس من خلال نظرتك الرومانسية للأشياء أو عاطفتك تجاه العالم، هنا أحداث تنحر في الروح وتعكس البؤس بكل معانيه، هنا ستجد الجندى الذى لم ينعم بنوم جيد ويتمنى من حقوقه الجسدية فقط قبلة في قصته التي حملت نفس الاسم، وسترى الأطفال يتطلعون بأعينهم على كوب من الماء يبل فيه العيش الناشف ليملأ معدتهم الفارغة في عمله "الفلاحون"، وستظهر لك المرأة في قمة ضعفها بلا حول ولا قوة طالما لم تولد في الطبقة الغنية في كثير من الأعمال لعل أبرزها "المغفلة" و"الكبش والآنثة"، أما الرجال فهم قطيع من الحيوانات منها التي ترعى الحرث طوال حياتها أو التي تنعم بالرفه والكسل وتتشابه في نهاية اليوم في البحث فقط عن الطعام والتزاوج.
كما ناقش تشيخوف مظاهر الظلم والطبقية فى "وفاة موظف" و"حلة النقيب"، وعكس ملامح الواقع القاسى في عمله "الراهب الأسود"، وتجلت ملامح الجهل في عالم ملىء بالمعرفة خاصة في "رسالة إلى جارى العالم"، والبؤس الشديد في "المصيبة"، وشرور النفس والتلون في "الحرباء"، وقد أبدع تشيخوف في كل ذلك، من وجهة نظر ظروفه في النصف الأول من القرن الـ19 عندما كان الاستعمار على أشده ورجال الإقطاعيات يتحكمون في كل شيء، ولكن نظرة الجيل الجديد إلى تشيخوف لها منظور آخر سنوضحه..
ولد الكاتب في عام 1860 في عالم راكد لا تتصارع فيه الأحداث بالشكل الذى نراه الآن، العصر التكنولوجى أثر على الأدب ليس فقط بفرض تقنيات جديدة على العالم في كل يوم ولكن بإنشاء جيل كامل بسمات مختلفة، جيل لا يناسبه واقع تشيخوف أو أسلوبه في الكتابة، هذا الجيل يرى في الأنظمة التكنولوجية المعقدة بعض الثغرات فكيف لك أن تفرض عليه واقع جامد من البؤس بلا مساحة بسيطة من الأمل، كيف لك أن تغلق عليه كل أبواب الخروج من الواقع، هذا الجيل يهرب من واقعه بألعاب الفيديو جيم ويبحث عن المتعة فى التواصل عبر الإنترنت حتى وإن كان يعانى.
وتحاول فيه المرأة أن تحصل على بعض حقوقها مهما كان مستواها وتنهض بعلمها وعملها، فكيف لها أن تتفهم هذه القوالب من الضعف التي تراها وأن تستجيب لوصف تشيخوف لمشاعرها بالهشاشة، أو الحب بأنه مجرد فكرة قد يتخذها أحدهم تجاهها كما جاء في "الراهب الأسود".
ومن جانب آخر، فإن هذا الجيل رغم أنه أصبح أكثر وعيا بطبيعة الحياة القاسية، إلا أنه وجد طريقة السخرية والجدل الناشئ في الترندات اليومية سبيل له أن ينفس عن حزنه ويتحدث عن حقوقه ويتمرد على الأوضاع غير المنصفة، وأصبح لا ينقصه أبدا قدر آخر من البؤس ليحمله على قلبه، فهو يتحرر من القيود النفسية بكل قوته، لا يسعى لها بمحض إرادته، وينجر إلى هذا العمق الذى يتسم به أدب تشيخوف.
قد يكون تشيخوف أهم من جاء في أدب القصة القصيرة وأعظم من صور المعانى الإنسانية وعكس الواقع بكل قسوته وعرف العالم على ما يدور بداخل النفس البشرية وما تكنه من أوجاع، ولم يكتف بالنظر للأمور كما تبدو ولا يسطح التفاصيل أبدا، ولكنه لكل هذه الأسباب لم يعد يناسب الطريق الذى يسلكه الجيل الجديد في التعرف على الحياة.