تمر اليوم ذكرى معركة بدر الكبرى، وهى واحدة من أشهر الأحداث فى التاريخ الإسلامي، نظرًا لأهميتها الكبيرة ودورها فى المحافظة على الإسلام، فهى أول لقاء حربى مهم بين المسلمين ومشركى قريش، وقد وقعت فى 17 رمضان، وكتب الكثيرون عن هذه المعركة المهمة، وممن كتبوا محمد حسين هيكل فى كتبه "حياة محمد".
يقول هيكل:
غزوة بدر الكبرى
خرج أبو سفيان فى أوائل الخريف من السنة الثانية للهجرة فى تجارة كبيرة يقصد الشام، وهى التجارة التى أراد المسلمون اعتراضها حين خرج النبى — عليه الصلاة والسلام — إلى العُشَيرة. لكنهم إذ بلغوها كانت قافلة أبى سفيان قد مرَّت بها ليومين من قبل وصولهم إليها؛ إذ ذاك اعتزم المسلمون انتظارها فى عودتها. ولما تحيَّن محمد انصرافها من الشام بعث طلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد ينتظران خبرها، فسارا حتى نزلا على كشدٍ الجهنى بالحوراء وأقاما عنده فى خِباء حتى مرَّت العير، فأسرعا إلى محمد ليُفضيا إليه بأمرها وما رأيا منها.
على أن محمدًا لم ينتظر رسوليه إلى الحوراء وما يأتيان به من خبر العير؛ فقد ترامى إليه أنها عير عظيمة، وأن أهل مكة جميعًا اشتركوا فيها، لم يبق أحد منهم من الرجال والنساء استطاع أن يساهم فيها بحظ إلا فعل، حتى قُوِّم ما فيها بخمسين ألفًا من الدنانير. ولقد خشى إن هو انتظرها أن تفوته العير فى عودتها إلى مكة كما فاتته فى ذهابها إلى الشام. لذلك ندب المسلمين وقال لهم: هذه عير قريش؛ فاخرجوا إليها لعل الله ينفلكموها. وخف بعض الناس وثقل بعض. وأراد جماعة لم يسلموا أن ينضموا طمعًا فى الغنيمة، فأبى محمد عليهم الانضمام أو يؤمنوا بالله ورسوله.
أما أبو سفيان فكان قد اتصل به خروج محمد لاعتراض قافلته حين رحلتها إلى الشام، فخاف أن يعترضه المسلمون حين أوبته بعد أن ربحت تجارته، وجعل ينتظر أخبارهم. وكان الجهنى الذى نزل عليه رسولا محمد بالحوراء بعض من سأل. ومع أن الجهنى لم يصدُقه الخبر فقد بلغه من أمر محمد والمهاجرين والأنصار معه مثل ما ترامى إلى محمد من خبره؛ فخاف عاقبة أمره أن لم يكن من قريش فى حراسة العير إلا ثلاثون أو أربعون رجلًا. عند ذلك استأجر ضمضم بن عمرو الغفارى فبعثه مسرعًا إلى مكة ليستنفر قريشًا إلى أموالهم، ويخبرهم أن محمدًا قد عرض لها فى أصحابه. ووصل ضمضم من مكة إلى بطن الوادى فقطع أُذنى بعيره وجدع أنفه وحوَّل رحله ووقف هو عليه وقد شق قميصه من قُبُل ومن دُبُر وجعل يصيح: يا معشر قريش! اللطيمة١ اللطيمة! أموالكم مع أبى سفيان قد عرض لها محمد فى أصحابه لا أرى أن تدركوها. الغوث الغوث! وما لبث أبو جهل حين سمعه أن صاح بالناس من عند الكعبة يستنفرهم. وكان أبو جهل رجلًا خفيفًا حديد الوجه حديد اللسان حديد النظر. ولم تكن قريش فى حاجة إلى من يستنفرها، وقد كان لكل منهم فى هذه العير نصيب.
على أن طائفة من أهل مكة كانت تشعر بما ظلمت قريش المسلمين من أهلها حتى أكرهتهم على الهجرة إلى الحبشة ثم الهجرة إلى المدينة، فكانت تتردد بين النفير للذود عن أموالها والقعود رجاء ألا يصيب العير مكروه. وهؤلاء كانوا يذكرون أن قريشًا وكنانة بينهما ثأر فى دماء تبادل الفريقان إراقتها. فإذا هى خفت إلى لقاء محمد لمنع عيرها منه خافت بنى بكر (من كنانة) أن تهاجمها من خلفها. وكادت هذه الحجة ترجح وتؤيد رأى القائلين بالقعود، لولا أن جاء مالك بن جُعشم المدلجي، وكان من أشراف بنى كنانة، فقال: أنا لكم جار من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشيء تكرهونه. إذ ذاك رجحت كفة أبى جهل وعامر بن الحضرمى والدعاة إلى الخروج لدفع محمد والذين معه، ولم يبق لكل قادر على القتال عذر فى التخلف أو يرسل مكانه رجلًا. ولم يتخلف من أشراف قريش إلا أبو لهب الذى بعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة وكان لط٢ له بأربعة آلاف درهم كانت له عليه أفلس بها. وكان أمية بن خلف قد أجمع على القعود، وكان شيخًا جليلًا جسيمًا ثقيلًا، فأتاه بالمسيجد عقبة بن أبى معيط وأبو جهل، ومع عقبة مجمرة فيها بخور ومع أبى جهل مكحلة ومرود فوضع عقبة المجمرة بين يديه وقال: يا أبا على استجمر فإنما أنت من النساء. وقال أبو جهل: اكتحل أبا على فإنما أنت امرأة. فقال أمية: ابتاعوا لى أفضل بعير فى الوادي، وخرج معهم؛ فلم يبق بمكة متخلف قادر على القتال.
أما النبى — عليه السلام — فقد خرج فى أصحابه من المدينة، لثمانٍ خلون من شهر رمضان من السنة الثانية من الهجرة، وجعل عمرو بن أم مكتوم فيها على الصلاة بالناس، ورد أبا لبابة من الروحاء واستعمله على المدينة. وكانت أمام المسلمين فى مسيرتهم رايتان سوداوان، وكانت إبلهم سبعين بعيرًا جعلوا يعتقبونها،٣ كل اثنين منهم وكل ثلاثة وكل أربعة يعتقبون بعيرًا، وكان حظ محمد فى هذا كحظ سائر أصحابه؛ فكان هو وعلى بن أبى طالب ومرثد بن أبى مرثد الغنوى يعتقبون بعيرًا. وكان أبو بكر وعمر وعبد الرحمن بن عوف يعتقبون بعيرًا، وكانت عدَّة من خرج مع محمد إلى هذه الغزوة خمسة وثلاثمائة رجل، منهم ثلاثة وثمانون من المهاجرين وواحد وستون من الأوس والباقون من الخزرج. وانطلق القوم مسرعين من خوف أن يفلت أبو سفيان منهم، وهم يحاولون حيثما مروا أن يقفوا على أخباره. فلما كانوا بعرق الظبية لقوا رجلًا من الأعراب فسألوه عن القوم فلم يجدوا عنده خبرًا.
وانطلقوا حتى أتوا واديًا يقال له ذَفِران نزلوا فيه، وهناك جاءهم الخبر بأن قريشًا قد خرجوا من مكة ليمنعوا عيرهم. إذ ذاك تغير وجه الأمر. لم يبق هؤلاء المسلمون مهاجروهم والأنصار أمام أبى سفيان وعيره والثلاثين أو الأربعين رجلًا معه، لا يملكون مقاومة محمد وأصحابه؛ بل هذه مكة خرجت كلها وعلى رأسها أشرافها للدفاع عن تجارتها. فهَبِ المسلمين أدركوا أبا سفيان وتغلبوا على رجاله وأسروا منهم من أسروا واقتادوا إبله وما عليها، فلن تلبث قريش أن تدركهم، يحفزها حرص على مالها والدفاع عنه وتؤازرها كثرة عديدها وعُددها، وأن توقع بهم وأن تسترد الغنيمة منهم أو تموت دونها. ولكن إذا عاد محمد من حيث أتى طمعت قريش وطمعت يهود المدينة فيه، واضطر إلى موقف المصانعة، واضطر أصحابه إلى أن يحتملوا من أذى يهود المدينة مثل ما احتملوا من أذى قريش بمكة. وهيهات إن هو وقف هذا الموقف أن تعلو كلمة الحق وأن ينصر الله دينه.
استشار الناس وأخبرهم بما بلغه من أمر قريش؛ فأدلى أبو بكر وعمر برأيهما، ثم قام المقداد بن عمرو فقال: «يا رسول الله، امض لما أراك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون.» وسكت الناس. فقال الرسول: أشيروا على أيها الناس. وكان يريد بكلمته هذه الأنصار الذين بايعوه يوم العقبة على أن يمنعوه مما يمنعون منه أبناءهم ونساءهم ولم يبايعوه على اعتداء خارج مدينتهم. فلما أحس الأنصار أنه يريدهم، وكان سعد بن معاذ صاحب رايتهم التفت إلى محمد وقال: لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: أجل. قال سعد: «لقد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة؛ فامض لما أردت فنحن معك. فوالذى بعثك لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك وما تخلف منا رجل واحد. وما نكره أن تلقى بنا عدوَّنا غدًا. إنا لصُبُرٌ فى الحرب صُدُقٌ فى اللقاء؛ لعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله.»
ولم يكد سعد يتم كلامه حتى أشرق وجه محمد بالمسرة وبدا عليه كل النشاط وقال: سيروا وأبشروا، فإن الله قد وعدنى إحدى الطائفتين. والله لكأنى الآن أنظر إلى مصارع القوم. وارتحلوا جميعًا، حتى إذا كانوا على مقربة من بدر انطلق محمد على بعيره حتى وقف على شيخ من العرب وسأله عن قريش وعن محمد وأصحابه، ومنه عرف أن عير قريش منه قريب.
إذ ذاك عاد إلى قومه، فبعث على بن أبى طالب والزبير بن العوام وسعد بن أبى وقاص فى نفر من أصحابه إلى ماء بدر يتلمسون له الخبر عليه. وعادت هذه الطليعة ومعها غلامان عرف محمد منهما أن قريشًا وراء الكثيب بالعدوة القصوى. ولما أن أجابا أنهما لا يعرفان عدَّة قريش، سألهما محمد كم ينحرون كل يوم؟ فأجابا: يومًا تسعًا ويومًا عشرًا. فاستنبط النبى من ذلك أنهم بين التسعمائة والألف. وعرف من الغلامين كذلك أن أشراف قريش جميعًا خرجوا لمنعه؛ فقال لقومه: «هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها.» إذن فلا بد له ولهم أمام قوم يزيدون عليهم فى العدد ثلاثة أضعاف أن يشحذوا عزائمهم، وأن يوطِّنوا على الشدة أفئدتهم ونفوسهم، وأن ينتظروا موقعة حامية الوطيس لا يكون النصر فيها إلا لمن ملأ الإيمان بالنصر قلبه.
وكما عاد على ومن معه بالغلامين وبخبر قريش معهما ذهب اثنان من المسلمين حتى نزلا بدرًا، فأناخا إلى تل قريب من الماء وأخذا وعاءً لهما يستقيان فيه. وإنهما لعلى الماء إذ سمعا جارية تطالب صاحبتها بدين عليها والثانية تجيبها: إنما تأتى العير غدًا أو بعد غد، فأعمل لهم ثم أقضيه لك. وعاد الرجلان فأخبرا محمدًا بما سمعا. فأما أبو سفيان فسبق العير يتنطس الأخبار حذر أن يكون محمد قد سبقه إلى الطريق. فلما ورد الماء وجد عليه مجدى بن عمرو، فسأله: هل قد رأى أحدًا؟ وأجاب مجدى بأنه لم ير إلا راكبين أناخا إلى هذا التل، وأشار إلى حيث أناخ الرجلان من المسلمين. فأتى أبو سفيان مناخهما فوجد فى روث بعيريهما نوى عرفه من علائف يثرب، فأسرع عائدًا إلى أصحابه وعدل بالسير عن الطريق مساحلًا البحر مسرعًا فى مسيره، حتى بعد ما بينه وبين محمد، ونجا.
وأصبح الغد والمسلمون فى انتظار مروره بهم، فإذا الأخبار تصلهم أنه فاتهم وأن مقاتلة قريش هم الذين ما يزالون على مقربة منهم؛ فيذوى فى نفوس جماعة منهم ما كان يملؤها من أمل الغنيمة، ويجادل بعضهم النبى كى يعودوا إلى المدينة ولا يلقوا القوم الذين جاءوا من مكة لقتالهم. وفى ذلك نزل قوله تعالى: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَن يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ.٤
وقريش هم أيضًا، ما حاجتهم إلى القتال وقد نجت تجارتهم؟ أليس خيرًا لهم أن يعودوا من حيث أتوا، وأن يتركوا المسلمين يرجعون من رحلتهم بخفى حنين؟ كذلك فكر أبو سفيان وبذلك أرسل إلى قريش يقول لهم: إنكم قد خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم، فقد نجَّاها الله فارجعوا، ورأى من قريش رأيه عددٌ غير قليل. لكن أبا جهل ما لبث حين سمع هذا الكلام أن صاح: والله لا نرجع حتى نرد بدرًا فنقيم عليه ثلاثًا ننحر الجزر، ونطعم الطعام ونسقى الخمر وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا، فلا يزالون يهابوننا أبدًا بعدها؛ ذلك أن بدرًا كانت موسمًا من مواسم العرب؛ فانصراف قريش عنها بعد أن نجت تجارتهم قد تفسره العرب، فيما رأى أبو جهل، بخوفهم من محمد وأصحابه، مما يزيد محمدًا شوكةً ويزيد دعوته انتشارًا وقوة، وخاصةً بعد الذى كان من سرية عبد الله بن جحش وقتل ابن الحضرمى وأخذ الأسرى والغنائم من قريش.
وتردد القوم بين اتباع أبى جهل مخافة أن يتهموا بالجبن، وبين الرجوع بعد أن نجت عيرهم، فلم يرجع إلا بنو زُهرة الذين اتبعوا مشورة الأخنس بن شريق، وكان فيهم مطاعًا. واتبعت سائرُ قريش أبا جهل حتى ينزلوا منزلًا يتهيئون فيه للحرب ثم يتشاورون بعد ذلك. ونزلوا بالعدوة القصوى خلف كثيب من الرمل يحتمون به. أما المسلمون الذين فاتتهم الغنيمة فقد أجمعوا أن يثبتوا للعدو إذا أجمع على محاربتهم؛ لذلك بادروا إلى ماء بدر، ويسَّر لهم مطر أرسلته السماء مسيرتهم إليها. فلما جاءوا أدنى ماء نزل محمد به.
وكان الحُباب بن المنذر بن الجموح عليمًا بالمكان؛ فلما رأى حيث نزل النبى قال: يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل أمنزلًا أنزلكه الله فليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه، أم هو الرأى والحرب والمكيدة؟ قال محمد: بل هو الرأى والحرب والمكيدة. فقال: يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل؛ فانهض بالناس حتى تأتى أدنى ماء من القوم فتنزل ثم نغوِّر ما وراءه من القُلُب،٥ ثم نبنى عليه حوضًا فملأه ماء ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون. ولم يلبث محمد حين رأى صواب ما أشار به الحباب أن قام ومن معه واتَّبع رأى صاحبه، معلنًا إلى قومه أنه بشرٌ مثلهم وأن الرأى شورى بينهم وأنه لا يقطع برأى دونهم، وأنه فى حاجة إلى حسن مشورة صاحب المشورة الحسنة منهم.
ولما بنوا الحوض أشار سعد بن معاذ قائلًا: «نبى الله، نبنى لك عريشًا تكون فيه وتعدُّ عندك ركائبك ثم نلقى عدونا؛ فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدوِّنا كان ذلك ما أحببنا، وإن كانت الأخرى جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا من قومنا؛ فقد تخلف عنك أقوام يا نبى الله ما نحن بأشد لك حبًّا منهم، ولو ظنوا أنك تلقى حربًا ما تخلفوا عنك، يمنعك الله بهم يناصحونك ويجاهدون معك.»
وأثنى محمد على سعد ودعا له بخير، وبُنى العريش للنبي، حتى إذا لم يكن النصر فى جانبه وجانب أصحابه لم يقع فى يد عدوِّه واستطاع اللحاق بأصحابه فى يثرب.
هنا موضع لوقفة إعجاب بصدق وفاء المسلمين وعظيم محبتهم لمحمد وإيمانهم برسالته. فها هم أولاء يعلمون أن قريشًا تفوقهم فى العدد وأنها ثلاثة أمثالهم، ومع ذلك اعتزموا الوقوف فى وجهها وقتالها. وها هم أولاء يرون الغنيمة فاتتهم فلم يصبح الكسب المادى هو الذى يحفزهم للقتال، ومع ذلك قاموا إلى جانب النبى يؤيدونه ويعززونه. وها هم أولاء تتردد نفوسهم بين الطمع فى النصر وخوف الهزيمة. ومع ذلك فكروا فى حماية النبى وتوقيته أن يظفر به عدوُّه، ومهدوا له سبيل الاتصال بمن ترك بالمدينة. فأى موقف أدعى للإعجاب من هذا الموقف؟ وأى إيمان يكفل النصر كهذا الإيمان؟!
ونزلت قريش منازل القتال، ثم بعثوا من يقص لهم خبر المسلمين فجاءهم بأنهم ثلاثمائة أو يزيدون قليلًا أو ينقصون، ولا كمين لهم ولا مورد؛ ولكنهم قوم ليس لهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم، فلا يموت منهم رجل قبل أن يقتل رجلًا مثله. ولما كانت صفوة قريش قد خرجوا فى هذا الجيش، خشى بعض ذوى الحكمة منهم أن يقتل المسلمون كثرتهم فلا تبقى لمكة مكانة. لكنهم خافوا حدة أبى جهل ورميه إياهم بالجبن والخوف، وإن لم يمنع ذلك عتبة بن ربيعة من أن يقف بينهم قائلًا: «يا معشر قريش، إنكم والله ما تصنعون بأن تلقوا محمدًا وأصحابه شيئًا. والله لئن أصبتموه لا يزال الرجل ينظر فى وجه رجل قتل ابن عمه أو ابن خاله أو رجلًا من عشيرته. فارجعوا وخلوا بين محمد وسائر العرب؛ فإن أصابوه فذلك الذى أردتم، وإن كان غير ذلك لم نتعرض منه لما تكرهون.» فلما بلغت أبا جهل مقالة عتبة استشاط غيظًا وبعث إلى عامر بن الحضرمى يقول له: «هذا حليفك يريد أن يرجع بالناس وقد رأيت ثأرك بعينك، فقم فانشد مقتل أخيك.» وقام عامر فصرخ: وا عمراه! فلم يبق بعد ذلك من الحرب مفرٌّ. وأعجل القتال أن اندفع الأسود بن عبد الأسد المخزومى من بين صفوف قريش إلى صفوف المسلمين يريد أن يهدم الحوض الذى بنوا؛ فعاجله حمزة بن عبد المطلب بضربة أطاحت بساقه فسقط إلى ظهره تشخب رجله دمًا، ثم أتبعها حمزة بضربة أخرى قضت عليه دون الحوض. ولا شيء أرهف لظُبَا السيوف من منظر الدم؛ ولا شيء أشد إثارة لعواطف القتال والحرب فى الإنسان من مرأى رجل مات بيد العدوِّ وقومه وقوف ينظرون.
وما إن سقط الأسود حتى خرج عتبة بن ربيعة بين أخيه شيبة وابنه الوليد بن عتبة ودعا إلى المبارزة. وخرج إليه فتية من أبناء المدينة. فلما عرفهم قال لهم: ما لنا بكم من حاجة إنما نريد قومنا. ونادى مناديهم: يا محمد أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا. وخرج إليهم حمزة بن عبد المطلب وعلى بن أبى طالب وعبيدة بن الحارث. ولم يمهل حمزة شيبة ولا أمهل على الوليد أن قتلاهما، ثم أعانا عبيدة وقد ثبت له عتبة. فلما رأت قريش من ذلك ما رأت، تزاحف الناس، والتقى الجمعان صبيحة الجمعة لسبع عشر خلت من شهر رمضان.
وقام محمد على رأس المسلمين يعدل صفوفهم. فلما رأى كثرة قريش وقلة رجاله وضعف عدتهم إلى جانب عُدة المشركين عاد إلى العريش ومعه أبو بكر، وهو أشد ما يكون خوفًا من مصير ذلك اليوم، وأشد ما يكون إشفاقًا مما يصير إليه أمر الإسلام إذا لم يتم للمسلمين النصر. واستقبل محمد القبلة واتجه بكل نفسه إلى ربه، وجعل ينشده ما وعده ويهتف به أن يتم له النصر. وبالغ فى التوبة والدعاء والابتهال وجعل يقول: «اللهم هذه قريش قد أتت بخُيلائها تحاول أن تكذِّب رسولك، اللهم فنصرك الذى وعدتني. اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تُعبد.» وما زال يهتف بربه مادًّا يديه مستقبلًا القبلة حتى سقط رداؤه؛ وجعل أبو بكر من ورائه يرد على منكبيه رداءه ويُهيب به: يا نبى الله، بعض مناشدتك ربك؛ فإن الله منجز لك ما وعدك. ولكن محمدًا ظل فيما هو فيه أشدَّ ما يكون توجهًا وأشد ما يكون تضرعًا وخشية واستعانة بربه على هذا الموقف الذى لم يتوقعه المسلمون ولم يتخذوا له عدته، حتى خفق خفقة من نعاس رأى خلالها نصر الله، وانتبه بعدها مستبشرًا، وخرج إلى الناس يحرضهم ويقول له: «والذى نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيُقتل صابرًا محتسبًا مقبلًا غير مدبر إلا أدخله الله الجنة.»
وسرت من نفسه القوية — أمدها الله من لدنه بما سما بها فوق كل قوة — إلى نفوس هؤلاء المؤمنين برسالته قوة ضاعفت عزمهم، وجعلت كل رجل منهم يعدل رجلين بل يعدل عشرة رجال. ويسيرٌ عليك أن تقدر هذا إذا ذكرت ما لازدياد القوة المعنوية من أثر فى النفس متى توافرت أسباب ازدياد هذه القوة المعنوية فيها. فدافع الوطنية يزيدها. وهذا الجندى الذى يقف مدافعًا عن وطنه المهدد بالخطر ممتلئ النفس بالعاطفة الوطنية، تتضاعف قوته المعنوية بمقدار حبه لوطنه وإيمانه به، وبمقدار تخوُّفه من الخطر الذى يتهدد العدو الوطن به. ولهذا تغرس الأمم فى نفوس أبنائها منذ نعومة أظفارهم حب الوطن والاستهانة بالتضحية فى سبيله. والإيمان بالحق وبالعدل وبالحرية وبالمعانى الإنسانية السامية يزيد القوة المعنوية فى النفس بما يضاعف القوة المادية فيها. والذين يذكرون ما قام به الحلفاء فى الحرب الكبرى من دعوة واسعة النطاق ضد الألمان، أساسها أنهم يدافعون عن قضية الحرية والحق ويحاربون فى ألمانيا الجندية المسلحة ويمهدون لعهد سلام ونور، يدركون ما كانت تضاعف هذه الدعوة من قوة فى نفوس جنود الحلفاء بمقدار ما كانت تحيطهم به من عطف فى أكثر أمم العالم.
وما الوطنية وما قضية السلام إلى جانب ما كان محمد يدعو إليه؟! إلى اتصال الإنسان بالوجود كله اتصالًا يندمج به فيه ويصبح قوة من قوى الكون الموجه له إلى سبيل الخير والنعمة والكمال! نعم ما الوطنية وما قضية السلام إلى جانب الوقوف فى جانب الله ودفع الذين يفتنون المؤمنين عنه، والذين يصدون عن سبيله، والذين ينزلون بالإنسان إلى دَرَك الوثنية والإشراك؟! إذا كانت النفس يزيدها حب الوطن قوة بمقدار ما فى الوطن كله من قوة، ويزيدها حب السلام للإنسانية كلها قوة بمقدار ما فى الإنسانية من قوة، فما أكثر ما يزيدها الإيمان بالوجود كله وبخالق الوجود كله من قوة! إنه ليجعلها قديرة أن تُسيِّر الجبال، وتحرِّك العوالم، وتهيمن بسلطانها المعنوى على كل من كان أقل منها فى هذا الأمر إيمانًا.
وهذا السلطان المعنوى يزيد قوتها أضعافًا مضاعفة، فإذا لم يصل هذا السلطان المعنوى إلى غاية كماله بسبب ما كان بين المسلمين من خلاف قبل الموقعة، لم تبلغ القوة المادية كل ما تطمح إلى بلوغه، وإن هى زادت بفعل هذا الإيمان الذى ازداد قوة بتحريض محمد أصحابه فعوَّضهم بذلك عن قلة عددهم وعُدتهم. وفى حال النبى وأصحابه هذه نزلت الآيتان: يَا أَيُّهَا النَّبِى حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ ۚ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ۚ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ * الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا ۚ فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ۚ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ ۗ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ.٦
ازداد المسلمون قوة بتحريض محمد إياهم ووقوفه بينهم ودفعهم لمقاتلة العدو والصيحة بهم أن الجنة لمن أحسن البلاء ومن غمس يده فى العدو حاسرًا. ووجَّه المسلمون أكبر همهم إلى سادات قريش وزعمائها يريدون استئصالهم جزاءً وفاقًا لما عذَّبوهم بمكة، ولما صدُّوهم عن المسجد الحرام وعن سبيل الله. ورأى بلال أمية بن خلف وابنه، ورأى بعض المسلمين الذين عرفوه بمكة حوله. وكان أمية هو الذى عذَّب بلالًا إذ كان يُخرجه إلى رمضاء مكة فيُضجعه على ظهره ويأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره ليفتنه عن الإسلام، فيقول بلال: أحدٌ أحدٌ — رأى بلالٌ أمية فصاح به: أمية رأس الكفر لا نجوت إن نجا! وحاول بعض المسلمين من حول أمية أن يحولوا دون قتله وأن يأخذوه أسيرًا. فصرخ بلال بأعلى صوته فى الناس: يا أنصار الله، رأس الكفر أمية بن خلف! لا نجوت إن نجا. واجتمع الناس ولم ينصرف بلال حتى قُتل أمية. وقتل معاذ بن عمرو بن الجموح أبا جهل بن هشام. وخاض حمزة وعلى وأبطال المسلمين وطيس المعركة وقد نسى كل منهم نفسه ونسى قلة أصحابه وكثرة عدوه، فثار النقع وامتلأ الجو بالغبار، وجعلت هام قريش تطير عن أجسادها والمسلمون يزدادون بإيمانهم قوة ويصيحون مهللين: أحدٌ أحدٌ، وقد كشفت أمامهم حجب الزمان والمكان وأمدهم الله بالملائكة يبشرونهم ويزيدونهم تثبيتًا وإيمانًا، حتى لكأن الواحد منهم إذ يرفع سيفه ويهوى به على عنق عدوه إنما تحرك قوة الله يده.
ووقف محمد وسط هذا الوطيس يتمشى خلاله ملك الموت يقظُّ رقبة الكفر، فأخذ حفنة من الحصباء فاستقبل بها قريشًا وقال: شاهت الوجوه! ثم نفحهم بها وأمر أصحابه فقال: شدوا. وشد المسلمون وما يزالون أقل من قريش عددًا، لكن كل واحد منهم امتلأت بنفحة من أمر الله نفسه، فلم يكن هو الذى يقتل العدو، ولا كان هو الذى يأسر من يأسر، لولا هذه النفحة التى ضاعفت قوته المعنوية بما ضاعفت قوته المادية. وفى ذلك نزل قوله تعالى: إِذْ يُوحِى رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّى مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِى فِى قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ،٧ وقوله تعالى: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَٰكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ ۚ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اللهَ رَمَىٰ.٨
لما آنس الرسول أن الله أنجزه وعده وأتم على المسلمين النصر عاد إلى العريش. وفرت قريش فطاردهم المسلمون يأسرون منهم من لم يُقتل ولم يساعفه حسن فراره بالنجاة.
هذه غزوة بدر التى استقر بها الأمر للمسلمين من بعدُ فى بلاد العرب جميعًا، والتى كانت مقدمة وحدة شبه الجزيرة فى ظلال الإسلام، ومقدمة الإمبراطورية الإسلامية المترامية الأطراف، والتى أقرت فى العالم حضارة لا تزال ولن تزال ذات أثر عميق فى حياته. ولقد تعجب إذ تعلم أن محمدًا، على ما كان من تحريضه أصحابه وما كان يرجو من استئصال عدو الله وعدوه، قد طلب إلى المسلمين منذ اللحظة الأولى من المعركة ألا يقتلوا بنى هاشم وألا يقتلوا بعض رجال من سادات قريش، مع أنهم اشتركوا فى قتال المسلمين، ومع أنهم سيقتلون من المسلمين من يستطيعون قتله. ولا تحسب أنه فى ذلك أراد أن يحابى أهله أو أحدًا ممن يمتون إليه بآصرة القربى، فنفس محمد أسمى من أن تتأثر بمثل هذا، وإنما ذكر لبنى هاشم منعهم إياه مدى ثلاثة عشر عامًا من يوم بعثه إلى يوم هجرته، حتى كان عمه العباس معه ليلة بيعة العقبة. وذكر لغير بنى هاشم من قريش جميل من قاموا وهم على الكفر يطالبون بنقض الصحيفة، التى اضطرته بها قريش أن يلزم هو وأصحابه الشعب، بعد أن قطعت قريش بهم كل صلة وكل علاقة. فهذا المعروف الذى تقدم به هؤلاء وأولئك قد اعتبره محمد حسنة يُجزى من قدمها بمثلها، بل يجزى بعشر أمثالها؛ لذلك كان شفيعًا لهؤلاء عند المسلمين ساعة القتال، وإن أبى بعض هؤلاء القرشيين أن يستظلوا بهذا العفو على نحو ما فعل أبو البخترى أحد الذين قاموا فى نقض الصحيفة، فقد أبى وقُتل.
ولَّى أهل مكة الأدبار كاسفًا بالهم، خاشعة من الذل أبصارهم، لا يكاد أحدهم يلتقى نظره بنظر صاحبه حتى يوارى وجهه خجلًا من سوء ما حل بهم جميعًا. أما المسلمون فأقاموا ببدر إلى آخر النهار، ثم جمعوا الذين قتلوا من قريش فحفروا لهم قليبًا فدفنوهم فيه. وقضى محمد وأصحابه تلك الليلة فى الميدان فى شغل بجمع الغنيمة والسهر على الأسرى. وإذا جن الليل جعل محمد يفكر فى نصر الله المسلمين على قلة عددهم، وخذلانه المشركين الذين لم يكن لهم من قوة الإيمان عضد تعتز به كثرتهم. جعل يفكر فى هذا، حتى سمعه أصحابه جوف الليل وهو يقول: «يأهل القليب! يا عتبة بن ربيعة، ويا شيبة بن ربيعة! ويا أمية بن خلف! ويا أبا جهل بن هشام! — واستمر يذكر من فى القليب واحدًا بعد واحد — يأهل القليب هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقًّا، فإنى وجدت ما وعدنى ربى حقًّا.» قال المسلمون: يا رسول الله، أتنادى قومًا جيَّفوا؟!٩ قال عليه السلام: «ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يستطيعون أن يجيبوني.» ونظر رسول الله فى وجه أبى حُذيفة بن عتبة فألفاه كئيبًا قد تغير لونه. فقال: «لعلك يا أبا حذيفة قد دخلك من شأن أبيك شيء؟ قال أبو حذيفة: لا والله يا رسول الله! ما شككت فى أبى ولا فى مصرعه، ولكن كنت أعرف من أبى رأيًا وحلمًا وفضلًا فكنت أرجو أن يهديه ذلك للإسلام. فلما رأيت ما أصابه، وذكرت ما كان عليه من الكفر بعد الذى كنت أرجو له، أحزننى أمره.» فقال له رسول الله خيرًا ودعا له بخير.
ولما أصبح الصبح وآن للمسلمين أن يرتحلوا قافلين إلى المدينة، بدءوا يتساءلون فى الغنيمة لمن تكون، قال الذين جمعوها: نحن جمعناها فهى لنا. وقال الذين كانوا يطاردون العدو حتى ساعة هزيمته: نحن والله أحق بها، فلولانا لما أصبتموها. وقال الذين يحرسون محمدًا مخافة أن يرتد إليه العدو: ما أنتم ولا هم أحق بها منا، وكان لنا أن نقتل العدو ونأخذ المتاع حين لم يكن دونه من يمنعه، ولكنا خفنا على رسول الله كرَّة العدو فقمنا دونه. فأمر محمد الناس أن يردوا كل ما فى أيديهم من الغنائم، وأمر بها أن تحمل حتى يرى فيها رأيه أو يقضى الله فيها بقضائه.