لم أجد خطرا أشد على هذه الأمة أكثر من أناس سموهم علماء أو مجاهدين أو مرشدين أو خلفاء، أفتوا بتحريم الفن والجمال، وعمموا الأحكام متجاهلين ظروف التاريخ والمكان، أصدروا فتواهم ليغلقوا العقول عن التفكير والتدبر، ليس طاعة لله ورسوله لكن طاعة لبشر أرادوهم هكذا دون فكر أو روح، أرادوا أن يصنعوا من الإنسان مسخا، يؤمر فيطيع، يساق ولا يسوق، ينقاد ولا ينتقد، يلبى ولا يخالف، أرادوهم خلافا لإرادة الله فى البشرية.
فى تاريخ الحضارة الإسلامية حكايات ونماذج وشواهد فنية تبرز عظمة هذا الدين وتجلياته على الفنانين الذين أبدعوا أعمالا راقية تعانقت فيها الحالة الفنية للفنان مع عاطفته الدينية، أيضا، لم تكن المسيحية فى خصومة مع الفن على مر التاريخ، والشواهد كثيرة، فهناك فن المسرح الذى ازدهر فى كنف الكنيسة، وفن البورتريه ورسومات تصاوير القديسين والسيدة العذراء والسيد المسيح والتصاوير التى تحكى ما ورد فى الكتاب المقدس، حتى أصبح فن الرسم نوعا من العبادة والتأمل والتدبر فى الشخصيات الدينية وما ورائها من ملامح العقيدة الدينية.
كان الفن نوعا من العبادة، وهكذا كان إبداع الفنان المؤمن المسلم الذى لم يجد شيئا ليعبر به عن تقديسه للقرآن الكريم وهو المعجزة الكبرى أعظم من فن الخط العربي، فالخطوط فى معظم الحضارات كانت وسيلة للتوثيق ولم تكن عنصرا زخرفيا مستقلا، لكن الفنان المسلم أبدع فى استخدام الخط ليزين به الأعمال الفنية ويزخرف به جدران وأسقف المنشآت الدينية والمدنية، فتنوعت الخطوط لتظهر منها أشكالا مختلفة مثل الخط الكوفى والثلث والديوانى والنسخ والرقعة، والخط الفارسى والتركى وغيرها من أنواع الخطوط.
كل هذا يعبر عن إبداع الفنان للتعبير عن دينه وعقيدته، والمتأمل لهذه الحالة الفنية الدينية يجد أن هناك علاقة وثيقة بين الإبداع الفنى والدين، ليست علاقة تنافر كما يصورها أولئك الذين يريدون قتل الجمال والإبداع وتشويه النفس البشرية والعقل الإنسانى، بل إن هناك مثالا عظيما فى القرآن، ففن السيناريو الذى خرجت منه فنون المسرح والسينما والدراما له علاقة وثيقة بفن الحكى والقصص، ولدينا فى كتبنا المقدسة أعظم قصص، فلا يوجد أعظم من القصص القرآنى الذى تظهر فيه معجزة الله وتحدى البشر فى المزج بين السيناريو والحوار، فهذا كلام الله لا يجاريه كلم البشر.
الدين فيه فنون عدة تجلت على فنانى كل العصور لتخرج لنا إبداعات فنية عظيمة، ومن يتأمل بنيان وعمارة الكنائس والمساجد يجد إبداع الفنانين والمعماريين وتجليات الدين عليهم، ففى الحضارة الإسلامية كان ابداع الفنان فى نوع جديد لم تعرفه البشرية من قبل حيث أنتج فن الأرابيسك، وهو أسلوب زخرفى هندسى ونباتى ليس له بداية ولا نهاية، تعبيرا عن الكون والجنة فكلاهما ليس لهما بداية ولا نهاية، ولا يخلو مسجد فى الحضارة الإسلامية من الزخارف الفنية خاصة عناصر الرمان والعنب والنخيل والأشجار التى أكثر الفنان وزاد فى استخدامها للتعبير عما ورد فى القرآن من آيات تصف الجنة ومتاعها، فهنا أيضا الفنان يعبر عن الجنة وما يكمن فى قلبه من عقيدة راسخة تتجلى على ابداعاته.
الفن ليس نقيضا للإيمان، فلا يوجد بينهما تصادم ولا خصام ولا كراهية، الدين والفن علاقة راقية تخاطب الروح الإنسانية فلا تقتلوا الإبداع فتصيبوا الروح بالكمد والخراب، حافظوا على الفن كجزء من الدين، فكلاهما صنيعة الخالق الذى أبدع الإنسان فأحسن صوره وتجلى بروح جماله وجلاله على الأشياء والإنسان فخرجت لنا تلك الأعمال الفنية من صنيعة الإنسان المخلوق.