«كانت الساعة الواحدة ليلاً فى مثل هذا اليوم» 1 سبتمبر 1982، حين هبطت مروحية تابعة لسلاح الجو الإسرائيلى، فى مصنع عسكرى فى منطقة نهاريا، وعند المهبط كانت شاحنة عسكرية تنتظر الضيوف القادمين الذين اضطروا إلى حشر أنفسهم فى خلفية الشاحنة، وبخ أحد أعضاء الوفد «فادى فرام» ممثلى الموساد المرافقين لهم: «ليس بهذه الطريقة يستقبل رئيس منتخب».
كان الرئيس المنتخب هو اللبنانى بشير الجميل، وحسب تحقيق لصحيفة «يديعوت أحرونوت» الإسرائيلية، فى ذكرى مرور 30 عاماً على الغزو الإسرائيلى للبنان «1982»، فإن هذه الزيارة لم تكن الأولى لـ«الجميل» إلى إسرائيل، إلا أنها كانت الأخيرة، وحسب الموقع الإلكترونى لجريدة «الأخبار اللبنانية» «أغسطس 2012»، ونقلاً عن «تحقيق يديعوت أحرنوت» يذكر «محمد بدير» بعنوان «يوم دخل بشير الجميل مسرعاً للقاء شارون»: «فى غرفة طعام المصنع كانت القيادة الأمنية والسياسة الإسرائيلية فى الانتظار: رئيس الحكومة مناحم بيجين، وزير الدفاع أرييل شارون، وزير الخارجية إسحاق شامير، رئيس الأركان رفائيل إيتان، وعدد من جنرالات الجيش، وبعدما أثنى بيجين على بشير وجماعته، ألقى خطاباً مطولاً يمكن تلخيصه بثلاث كلمات: «أنتم ناكرو الجميل، وقال بصوت متعب: أنا أتوقع منكم أن تلتزموا وتوقعوا اتفاقية سلام معنا».
لم يتملص بشير، قال: «إذا كنتم تريدون تصفيتى، فأنا مستعد لأن أوقع الليلة اتفاقاً، أنا لم أكذب عليكم، قلت لكم دائماً إن الاتفاق الرسمى سيخرج إلى حيز التنفيذ بعد فترة من العلاقات، كما كانت عليه الحال بينكم وبين شاه إيران، إذا اضطررتمونى إلى التوقيع الآن، فعليكم أن تأخذوا بالحسبان أنكم قد تضطرون إلى البقاء فى لبنان إلى الأبد، والدفاع عنى من الجهات التى تنوى قتلى».
عبر اللقاء عن «مسرح اللا معقول» حسب وصف محمد حسنين هيكل، فبيروت تحت الاحتلال الإسرائيلى منذ غزوها لبنان يوم 6 يونيو 1982، وفى نفس الوقت، يتم عقد مجلس النواب تحت تهديد السلاح لانتخاب «الجميل» رئيساً، ووصل الأمر حد خطف بعض النواب تحت تهديد السلاح لاستكمال النصاب القانونى، وبتعبير هيكل فى كتابه «مبارك وزمانه- ماذا جرى فى مصر ولها» «دار الشروق- القاهرة»: «فى ظل هذا اللا معقول أصبح بشير الجميل رئيساً مفروضاً من إسرائيل، لكنه وبعد انتخابه «23 أغسطس 1982» اضطر إلى إعادة حساباته معها، ومنها أسئلة طرحتها إسرائيل نفسها، منها: لماذا مثلاً لا يستطيع أن يتعهد علناً بتوقيع اتفاق سلام مع إسرائيل، وكان قد وعد بذلك، واكتشف بعد انتخابه أنه لا يستطيع وراح يتلمس المحاذير».
يعدد «هيكل» مرات «تلمس المحاذير»: «بعث إليه بيجين تهنئة بانتخابه رئيساً ولم يرد، ودعاه شارون ورئيس المخابرات الإسرائيلية إلى لقائهما فى قريته «بكفيا» وطلب تأجيل الاجتماع، وتصرف بيجين بأسلوبه وبعث يستدعيه بحزم إلى «نهاريا»، حيث كان يقضى إجازة، وحملت طلب الاستدعاء قوة خاصة من الجيش والموساد، وكان على «الجميل» أن يركب الهليكوبتر إلى «نهاريا» برضاه أو بغير رضاه».
وحسب رواية شاهد حضر الاجتماع من مستشارى «الجميل» وهو مستشار أمريكى يذكر هيكل: «دخلنا جناح بيجين، وكان هناك وزير الدفاع «شارون» وبعض مساعدى رئيس الوزراء، وراح بيجين يتكلم فى الأوضاع والتطورات، وبشير فى موقف الدفاع عن النفس، وفجأة طلب بيجين خروج الآخرين جميعاً من الغرفة، وأقفل الباب عليه وعلى بشير وحدهما، وبعد 45 دقيقة فتح الباب وخرج بشير ولاحظنا جميعاً أنه ممتقع الوجه، وعادت بنا الهليكوبتر إلى بيروت، وفى بيروت أخرج «الجميل» ورقة من جيبه قال «إن بيجين سلمها له، كان فيها نص مشروع معاهدة سلام، ثم قال لنا بشير: إن بيجين سلمنى هذا المشروع، وقال لى:«إنك سوف تتولى رئاسة الجمهورية رسمياً يوم 23 سبتمبر، وقبل نهاية ذلك الشهر، أى فى ظرف أسبوع واحد يتحتم أن يصلنى توقيعك على هذا الاتفاق».
سكت «بشير» ثم استطرد: «أعرف ماذا أفعل؟»، إذا لم أنفذ فلن أكون مطمئناً على حياتى»، ويعلق هيكل: «الغريب أن بشير أطلع أمريكيين رسميين على كل ما حدث، بل وبعث لعواصم عربية بطرف منه، وتصور كثيرون أنه يبالغ لكن الإسرائيليين عرفوا برسالته، وتفجر بيت الكتائب بعد أيام وسقطت أنقاضه فوق جثة بشير، ولم تكن إسرائيل هى التى نفذت العملية بنفسها، فهى أذكى من ذلك وأخبث، وإنما كان التنفيذ عن طريق بعض فصائل القوات اللبنانية المتعاملة مباشرة معها دون وساطة».