ذهب قادة الجيش السورى إلى رئيس الجمهورية بالنيابة «ناظم القدسى»، يسألونه عما يجب فعله لمساعدة مصر التى تواجه العدوان الثلاثى «بريطانيا وفرنسا وإسرائيل» منذ يوم 29 أكتوبر 1956.
كان الرئيس شكرى القوتلى فى زيارة إلى موسكو منذ يوم 30 أكتوبر، وحسب محمد حسنين هيكل فى كتابه «قصة السويس.. آخر المعارك فى عصر العمالقة» (شركة المطبوعات للتوزيع والنشر- بيروت): «كان ناظم القدسى يقيم فى فندق «أوريان بالاس» فى دمشق، وفيه قابل قادة الجيش مرتديا «الروب دى شامبر» وسألهم عما يريدون، وحين سمع منهم فوجئوا جميعا بجوابه: «نحن وقعنا اتفاقا مع مصر ضد إسرائيل، ولنفرض أن هناك عوامل جديدة، أفليس الواجب علينا أن ننتظر؟»، واقترح تأجيل أى قرار لفترة 48 ساعة، ردا على مطلب الضباط بتفعيل ميثاق الدفاع المشترك والقيادة المشتركة بين مصر وسوريا والأردن الذى تم توقيعه بين الدول الثلاث قبل العدوان بأيام قليلة، وكان المقدم «عبدالحميد السراج» قائد الشعبة الثانية فى المخابرات العسكرية هو أكثر المطالبين بالتفعيل.
خرج «السراج» من مقابلة «القدسى» مكتئبا حسب تأكيد «هيكل» وعاد إلى مكتبه فى «الشعبة الثانية» ليجد إشارة تخطره بظهور قطع بحرية أمام ميناءى اللاذقية وبانياس، وهو نهاية أحد خطوط أنابيب نقل البترول من العراق إلى البحر المتوسط، وهكذا طرح «خط الأنابيب» نفسه على فكره، فدعا ضابطا صديقه من لواء البادية، وطلب إليه الذهاب فورا لإيقاف عمل أجهزة اللاسلكى فى محطات الضخ الثلاثة، بحجة أنها قد تعطى إشارة إلى القطع البحرية التى ظهرت أمام الموانئ السورية، خشية أن يكون هناك ترتيب لإنزال على الشاطئ السورى، ونفذ الضابط المهمة.
توجه «السراج» إلى صبرى العسلى، رئيس الوزراء، بعد استدعائه، وكان وزير الأشغال مجد الدين الجابرى موجودا، وحسب هيكل، فإن «السراج» وقبل أن يجلس بادره «العسلى» بالقول، إن السفير الأمريكى كان موجودا عنده وإنهم قلقون من توقف ضخ البترول نتيجة توقف محطات اللاسلكى، وإنه لو شعر الإنجليز أن شيئا حدث للخط سيقومون بعملية إنزال على المحطات وعلى الخطوط، فهل نقدر نحن على الإنجليز؟، هل نقدر نحن على الأمريكان؟، فرد «السراج» أنه أمر فعلا بتوقف محطات اللاسلكى لفترة مؤقتة بعد ظهور قطع بحرية، ويبحث عن موظفين سوريين يجيدون اللغة الإنجليزية ليجلسوا بجوار عمال الإشارة فى المحطات ليتأكدوا من طبيعة الإشارات التى قد ترسلها القطع البحرية التى تظهر أمام الموانئ السورية، وتدخل وزير الأشغال قائلا، إنه يستطيع أن يجد فى البر والبريد عددا من الموظفين الذين يحسنون اللغة الإنجليزية، وأبدى السراج ترحيبه، مشترطا أن يكون هؤلاء ممن يثق فيهم الجيش، وعاد السراج إلى مكتبه، وفكره مشغول بتصرف جذرى، وهو وقف ضخ بترول العراق نهائيا عبر سوريا، فهو الذى تعتمد عليه بريطانيا عسكريا واقتصاديا، وطبقا لـ«هيكل» فإن تفكيره ذهب إلى أن نسف خط الأنابيب فى موضع واحد أو فى عدة مواضع لا يكفى، لأن إصلاح أى عطب فى الخط ممكن فى ظرف ساعات قليلة، ثم إن ذلك من الممكن أن يؤدى إلى إنزال بريطانى يحمى عمليات إصلاح الخط، وإذن فالمطلوب هو عملية نسف تؤدى إلى عطل كبير لا تكفى لإصلاحه ساعات ولا أيام ولا حتى أسابيع.
استدعى «السراج» صديقه الضابط مهندس المقدم «هيثم الأيوبى» وطرح عليه فكرة النسف فرحب بها، لكنه قال، إنها تحتاج إلى ثلاث أطنان من الديناميت ووسائل نقل وحراسة لتأمين المهمة المطلوبة، واستطاع السراج تدبير هذه الأشياء من مخازن الجيش عبر صديق له، وأمكن ترتيب ثلاث سيارات وقوة حراسة صغيرة، وقاد القافلة كلها هيثم الأيوبى، وتوقفت بحذر على طريق محطات الضخ، وآخرها فى دير الزور على بعد سبعمائة وخمسين كيلو مترا من دمشق، وفى مثل هذا اليوم «3 نوفمبر 1956» الساعة الواحدة بعد منتصف الليل تم نسف المحطة الأولى فى تدمر، وفى الساعة الرابعة صباحا تم نسف الثانية، وفى السابعة صباحا تحولت المحطة الثالثة فى دير الزور إلى حطام وأنقاض.
تلقى السراج إشارة باللاسلكى من «الأيوبى» بنجاح التنفيذ، وذهب السراج إلى بيته لينام، لكنه فوجئ بمن يدق الباب عليه، وذهب إلى سراى الحكومة، ثم إلى مكتب نائب الرئيس ناظم القدسى الذى سأله عما جرى للمحطات فرد باختصار: «طارت، طارت»، فسأله: «كيف طارت؟، رد السراج: نسفت من أساسها، ولا يمكن إصلاحها قبل شهور».