مع مرور الذكرى الثانية للهجوم الإرهابى على مجلة "شارلى إيبدو" فى باريس، تأتى الترجمة العربية لكتاب "من هو شارلى" للمؤرخ وعالم الأنثربولوجيا الفرنسى "إيمانويل تود"، والصادر عن المركز القومى للترجمة، ودار التنوير للنشر، ونقله إلى اللغة العربية الدكتور أنور مغيث، لتضع أمام القارئ العربى نظرة تحليلية لما حدث من هيستريا مفرطة عقب هذه المجزرة.
يقول "تود": مجلة "شارلى إيبدو" ورسومها الكاريكاتورية عن النبى محمد صارت معبدًا مقدسًا، حينما أعلنت الحكومة عن إعادة إصدارها، الأمر الذى مثل لحظة الذروة فى رد الفعل القومى على المأساة، فعلى الغلاف رأينا رسمًا يصور محمدًا بطريقة غير مهذبة، ولا يفلت من مؤرخ متمرس ومعتاد على الأزمات الدينية المغرمة بالأيقونات، أو المدمرة لها، أن تكريس الدولة الفرنسية لصورة محمد فى هذا الشكل يمثل منعطفًا تاريخيًا، ويؤكد أن فرنسا تعيش أزمة دينية تأتى فى أعقاب كل الأزمات الدينية التى حددت إيقاع تاريخها وتاريخ أوروبا منذ أفول الإمبراطورية الرومانية. يمكن لنا هنا أن نشارك وسائل الإعلام فى تسمية مظاهرات 11 يناير بالتاريخية وهى تسمية مكثفة، تكرارية، هوسية وطلسمية دينية.
وأضاف "تود" فى يناير 2015 لم يكن يوجد من يستمع إلى أى تحليل نقدى. كيف يمكن القول إن حشد الجماهير لم يكن رائعًا، وإنه يوحى بفقدان للهدوء بل وللكرامة فى المحنة؟ إن إدانة العمل الإرهابى لا يترتب عليها البتة تقديس شارلى إيبدو. إن حق المرء فى ازدراء دينه لا يجب أن ينسحب على حقه فى ازدراء دين الغير، وبشكل خاص فى السياق الاجتماعى والاقتصادى الصعب الذى يسم المجتمع الفرنسى حاليًا: التطاول بصورة متكررة، منهجية، على محمد وهو الشخصية المركزية لدى جماعة ضعيفة ويمارس ضدها تمييزا ينبغى له، أيًا كان رأى المحاكم، أن يعد تحريضًا على الكراهية الدينية والعرقية العنصرية.
كيف يمكن أن نشير إلى أن فرانسوا هولاند، عندما دعا إلى المظاهرة الجماهيرية، قد خاطر بتمجيد الشقيقين كواشى، وبإسباغ معنى أيديولوجى لعمل كان ينبغى التقليل من شأنه من خلال تفسيرات سيكولوجية؟ الجنون، بوصفه فقدان كل صلة بالواقع لا يمكن أن يستغنى عن الرموز الاجتماعية العادية: فالمصاب بالشيزوفرينيا يتصور نفسه نابليون أو يسوع، والمصاب بالبارانيو يتصور أن الشمس تخترقه أو الدولة تضطهده. السير فى طريق يحمل نبرة التهوين من الشأن وتخفيف المعنى كان ممكنًا. وهذا الاختيار لا يستبعد بالطبع قيام سوسيولوجيا للفزع الإسلاموى فى فرنسا. ولكن تم استبعاده. وعلى العكس، حصلنا على تقديس سلبى للشر بواسطة السلطات يؤدى إلى تفاقم التوترات الدينية فى داخل مجتمعنا كما فى داخل علاقتنا بالعالم.
كيف يمكن بيان أن فرنسا، فى جماهيرها وفى طبقاتها الوسطى وليس فى أطرافها، تعيش أزمة، ليست مجرد أزمة اقتصادية ولكن أيضًا أزمة من النمط الدينى أو شبه الدينى، لأنها لم تعد تعرف أين تذهب؟ مشكلة المجتمع الفرنسى لا تختزل فى مجرد ضاحية ينشط فيها الإرهاب الإسلاموى، إنها أكبر من ذلك. إن التركيز على الإسلام ينبئ فى الحقيقة عن حاجة مرضية للشرائح الوسطى والعليا لكراهية شىء ما أو شخص ما وليس فقط الخوف من تهديد قادم من قاع المجتمع، إن المسألة الحقيقة بالنسبة لفرنسا ليست هى الحق فى الكاريكاتير، وإنما هى صعود معاداة للسامية فى الضواحى. والعنصرية تنتشر فى الوقت نفسه باتجاه قاع البناء الاجتماعى وقمته.