هل سألت نفسك يومًا: متى أصبحت الحكومات فى العالم تعتبر أن للمثقف دورا اجتماعيا فيما يتعلق بالقضايا العامة؟ ومتى اتجهت الحكومات إلى تشكيل فريق من المثقفين حولها لتأييد قراراتها ودعمها؟.
هذا السؤال، سوف تجد إجابته خلال قراءة الترجمة العربية لكتاب بعنوان "من هو شارلى؟" للكاتب للمؤرخ وعالم الأنثربولوجيا الفرنسى "إيمانويل تود"، والذى قام بترجمته إلى اللغة العربية الدكتور أنور مغيث، والصادر عن المركز القومى للترجمة، ودار التنوير للنشر، فى القاهرة.
ففى مقدمة الكاتب إيمانويل تود، وخلال حديثه عن الفترات الأكثر سوادًا فى تاريخ فرنسا، يشير إلى واقعة تاريخية بعنوان "درايفوس"، الأمر الذى دفع المترجم أنور مغيث، لأن يقوم بتوضيحها فى الهامش، ففى أواخر القرن التاسع عشر تم اتهام ضابط فرنسى يهودى يسمى درايفوس بالتجسس لصالح الألمان، وشكك كثير من الأدباء والمثقفين وعلى رأسهم إميل زولا - 2 أبريل 1840 - 29 سبتمبر 1902، هو كاتب فرنسى مؤثر - فى هذه التهمة.
خلال هذه الواقعة كما يوضح أنور مغيث انقسمت فرنسا بين أنصار الملكية والمعادين للسامية يؤيدون اتهام درايفوس فى جانب والجمهوريين واليسار فى جانب آخر يدافعون عن درايفوس، وظهرت براءة درايفوس وتم رد الاعتبار إليه.
فما حدث هو أن "درايفوس" فى عام 1894، وهو ضابط مدفعية فرنسى شاب من أصل يهودى، تم الحكم عليه بالسجن المؤبد بتهمة الخيانة وإبلاغ الأسرار العسكرية الفرنسية للسفارة الإلمانية فى باريس، فتمت معاقبته وإرساله إلى جزيرة الشيطان.
وفى عام 1896، تم اكتشاف ما يثبت أن ميجور فى الجيش الفرنسى، يسمى فرديناند والسين إسترازى، الأمر الذى كان بمثابة مفاجأة وصدمة لكبار الضباط فى الجيش الفرنسى، ما دفع المحكمة العسكرية إلى تبرئة "درايفوس" فى اليوم الثانى، إلا أن الجيش اتهم "درايفوس" بتهم إضافية استناداً إلى وثائق "مزيفة".
وفى عام 1898 نشر الكاتب الفرنسى الشهير إميل زولا رسالة مطولة وصفت بـ"العنيفة" فى صحيفة باريس وضع الناشطون ضغطاً على الحكومة لإعادة فتح القضية، وعام 1899، عاد درايفوس إلى فرنسا لمحاكمة ثانية، ومن هنا قسمت الفضيحة السياسية والقضائية المدوية المجتمع الفرنسية ما بين مناصر لدرايفوس يطلق عليهم حالياً "الدرايفوسيون"، مثل أناتول فرانس، هنرى بوينكاره وجورج كلمنسو، ومدين له "مناهضو الدرايفوسيين"، مثل إدور درومون، مدير ومنشر صحيفة لا ليبر پرول المعادية للسامية. خرجت المحاكمة الثانية، بإدانة أخرى وعقوبة بالسجن 10 سنوات، لكن درايفوس كان قد حصل على عفو وأُطلق سراحة.
وفى النهاية، ثبت أن جميع الاتهامات التى وُجهت لـ"درايفوس" لا أساس لها من الصحة. وفى عام 1906، تمت تبرئة "درايفوس" وعاد مجددًا للجيش الفرنسى برتبة رائد، وخدم فى سنوات الحرب العالمية الأولى، وخرج من الخدمة برتبة مقدم.
ويوضح أنور مغيث أن هذه القضية تعد تاريخياً لبداية الدور الاجتماعى للمثقفين، بحيث أصبحت الحكومات تنظر للمثقفين نظرة مغايرة مختلفة عما كانت تراه فيهم ككاتب يعبرون عن رأيهم فى الصحف – على سبيل – إلى قوة أصبح لديها تأثير، وأنه بداية من هذه الواقعة أصبح هناك توجهًا لدى الحكومات بأن تشكل لنفسها قوة المثقفين يدعمونها فى الشارع.
جدير بالذكر أن إيمانويل تود، مؤرخ وعالم فى الأنثروبولوجيا. كتاباته دائمًا ما تنحاز لقيم الديمقراطية والمساواة وتوجه نقدًا حادًا للأحكام المسبقة والخطاب الإعلامى الشائع فى الغرب، له مجموعة كبيرة من المؤلفات، منها: "مصير المهاجرين" 1994، "لقاء الحضارات" 2007، "ما بعد الديمقراطية" 2008، و"السر الفرنسى" 2013.
أنور مغيث، أستاذ الفلسفة الحديثة والمعاصرة، مدير المركز القومى للترجمة، صدرت له مجموعة من الترجمات، نذكر منها: "نقد الحداثة"، "فى علم الكتابة"، "مسلمون ومسيحيون إخوة أمام الله"، "كيف يدمر الأثرياء الكوكب"، و"كفى للطغمة ولتحيا الديمقراطية".