ننشر قصة "فخ الإخلاص" من كتاب "كلام كائن عادى"، للكاتب ياسر شعبان.
والله هموم جسمك ثقيلة وطباعك دموية وقاسية – فلماذا سعاد تموت – أوه – أقصد ريميديوس.. وأيضًا الولد الإيطالى الملامح ينتحر ولا شىء يستحق أن يقسو الواحد على نفسه – وأمى لديها على الأقل سران وغالبًا لهما علاقة بوجودى وأصابعها تعرف أماكن الأشياء المخبأة وحلمها لى غامض وثقيل:
شقة واسعة تعنى مستقبلك.. وخالية لأنك فى أوله والماء الذى يتدفق من الحنفيات على البلاط رزق وفير..
(وأشعر أن مصيرى هو الغرق فى هذه الشقة
ولو نجوت أقفز من شباكى الذى لا أغلقه
وإذا استطعت أجرى تصدمنى عربة مسرعة..)
وربما تحفر بأصابعها الجدران بحثًا عن شىء.. تشعر بوجوده – و..
أنت مُر يا رجل ولست متزنًا.. مطلقًا.. وغالبًا أنت أب عادى جدًا وغلبان.. وعلاقتك بامرأتك سطحية جدًا وتافهة.. ونهايتك لا تليق بك – لكنها – نهايتك – فيجدونك فى السرير ميتًا – فجأة – ويخطئ الطبيب الشرعى – كالعادة – مات بالسكتة القلبية.. وهذا لا يعنى شيئًا مطلقًا.. فكل الناس لما يموتون تسكن قلوبهم – وأنا أيضًا مُر – والناس الذين لا يشعرون بوطأة وجودى ويحبوننى رغم أنوفهم..
...................
ثم إنه يتكاثف منذ الصباح ودخان أبيض وأسود وثمة حرائق صغيرة كثيرة فى كل مكان والمطر الخفيف يعاود ذاكرتى كثيرًا.. يا سلام هناك من يشعر أننى ثقيل على روحه ويغتاظ جدًا من ابتسامتى وحتمًا يقول لنفسه لماذا الناس يحبون هذا الولد وهو لا ينظر لهم – حتى.. ثم إنه ليس جميلًا بل قصيرًا وسمينًا وشاحبًا ولولا صوته المُحمل بالشجن والموت ما انتبه أحد لوجوده مطلقًا.. يا سلام الدخان يصنع أشكالًا كثيرة فى السماء ها هو يبدأ تنينًا يتحول إلى كتلة تبدو لى جسدًا أنثويًا مترهلًا تحول إلى وجه شيخ عجوز بلحية طويلة ثم أرنب، فطائر، فكتل من الدخان لا تعنى شيئًا مطلقًا.. فهل آخذ شهيقًا عميقًا متناسيًا الكربون وكبريتيد الهيدروجين وبقية المواد الأخرى التى تهيج علينا الخلايا السرطانية.. والله ربما يكون هذا جميلًا ومناسبًا لما أقسم أننى كل يوم أمرن نفسى على الموت.. وأغمض عينى فى الليل ودماغى لا تتوقف مطلقًا فأقوم بجفون متغضنة ومزاج سيئ يدفع كل الذين يروننى إلى قول: لقد قضى ليلة سيئة يفكر فى حبيبة تركته – يقولون خانتنى – لأسباب تافهة جدًا وفى موت الأطفال جوعًا وتشريد الخلق فى كل مكان ويظنون أننى طوال الليل أردد ما قال المسيح: تعم الفوضى والمجاعات والأمراض وليست النهاية بعد.. المسيح هذا الولد الغلبان الشاحب الذى أحب الناس جدًا لكنه لأسباب كثيرة – منها جسمانية – لم يكن يستطيع الحياة مثلهم.. وأزعم الآن أنه أحب ماريا مثلًا.. هذه التى خلص روحها من وطأة الجسد – أحبها والله – بأمارة أنها الوحيدة التى تجلس عند قدميه وتبكى بحرقة؛ الوحيدة التى مسحت الدم عن وجهه والآخرون مأخوذون تمامًا لا يصدقون كيف يصلبون ابن الإله.. وكل من يرانى يقول نفس الكلام ولا أندهش وثمة دخان معلق وحرائق صغيرة فى كل مكان وأولاد ينبشون فى كل شيء وأصابعهم الصغيرة تعثر على أشياء منسية تمامًا.. فها هى قروش نحاسية دسستها فى حشو الكراسى لما كان العيد وأخوتى يشترون البمب والحلوى وأجلس فى الركن أتأمل نقوش الكعك أو أبكى لأنهم ذبحوا الخروف الذى أركبه أيضًا..
(الشعور بالأمان)
.........
ولأن الباب مغلق والشباك والراديو والحنفيات ولا يوجد ناس فى الخارج عند أبواب البيوت وفى الشوارع، والمقاهى مغلقة، ومطر خفيف يسقط منذ الصباح.. خلعت ملابسى وألقيت البنطال على الأرض والقميص على كومة الكتب المتربة على الكرسى المكسو بجلد باهت وصعدت درجات السلم العشرة ببطء شديد مغمض العينين ووقفت فوق السطح عاريًا تمامًا أتمتم بالحكمة وأمر على صهريج الماء الفارغ مرات كثيرة جدًا ولا أبتسم..
لأنه فى آخر مرة لما صعد إلى السطح على أطراف أصابعه كالعادة بعد منتصف الليل عاريًا وبعد ساعتين من الحديث المتواصل، الحديث الذى يحتد حينًا فتعلو نبرة صوته ويهدأ فيهمس.. سمع خروشة فى الصهريج وأنفاسًا لاهثة - بالطبع - فكر فى كل شيء حتى العفاريت.. ولما رفع الغطاء انتفض جسمان عاريان - قال قوما ولم يقوما.. مدّ يده ليشدهما والجلد ملتهب جدًا ومبلول.. قالا لن تقول لأحد.. فقبّل البنت قبلة طويلة جدًا وضغط نهديها بين كفيه تمامًا وسحب الغطاء الصاج وهما يتسللان على أطراف أصابعهما.. ابتسمت وأشارت إليه وبنطالها ملتصق تمامًا بفخذيها، ونهداها مازالا نافرين تحت بلوزتها الخضراء والولد يشدها من يديها وتتعثر قدمه فى قدمه.. ويزمجر، فكيف أرتب الأشياء التى تتدافع فى دماغي.. ربما غرفتى هى السبب فكل الذين دخلوها قالوا فى وجهى " تصلح مقلبًا للقمامة " ولا أحد فى انتظارى، والعجائز لما يفسرن الأحلام يضحكنني.. ياسلام فربما ما أنا فيه حلم وربما الصور على الحيطان ليست صورًا والماء الذى يندفع من الحنفيات.. وأشياء كثيرة من ثرثرتهن تصيب وأحلام أمى لا تنزل الأرض مطلقًا – فما تراه فى الليل حتمًا يتحقق فى النهار " أى نهار".. فلماذا إذن كل الأشياء تخدعنى، الباب المغلق والشباك المغلق والناس الذين لم يعودوا فى الخارج والحنفيات التى لم تهتز لمرور الماء والمطر الخفيف الذى يسقط من أول النهار – إنه محير جدًا والله – فكل لحظة أقول لو توقف أخرج ولو زاد انكمش تحت الغطاء المتسخ.. ولماذا لم أضرب الولد وأقيده إلى مواسير الصهريج لأنفرد بالبنت وأقول لها الكثير عن فن الهوى والخلق الذين يعيشون هكذا وآخر الليل يدسون اللحم فى اللحم – وكيف قال زوربا أن بين فخذى أية أنثى جرح لا يلتئم والله حتمًا يعذب من يتخلى عن أنثى تتلوى فى فراشها – وأقول ويحرق التى لا تمنح للذى أشقته الأبواب المغلقة والحيطان المهترئة والسقوف العالية جدًا وأيضًا موزة خشنة بين الفخذين وذيل تيس فى المؤخرة جنون جميل فهل تقبلين..
(كل الأشياء تخدعنى)
..........
"أبدًا لن نستطيع أن نتوقع الخيانة".. هل تذكر متى قلت لك هذا الكلام؟ ولماذا؟
أظن كنا جالسين بأحد مقاهى وسط البلد بعد جولة عبثية بين هيئة قصور الثقافة وأخبار الأدب وأحد المكاتب العربية.. الحياة – ربما.
كنا قد طلبنا بعض الساندوتشات من المحل المقابل وجلسنا صامتين لدقائق نتصفح جريد أو مجلة أو كتابًا.. لا أذكر. كنا نجلس متقاربين لأن صوتنا كان منخفضًا لدرجة أنه يصبح مثل الهمس أحيانًا، ولأن أذنك اليمنى كانت ضعيفة السمع وعينى اليسرى تكاد لا ترى، (ثمة إشارة فى ذلك إلى فقدان الاتصال المباشر، فالأقرب من جسدينا لا يؤدى عمله بكفاء).
..كنا رومانسيين أبلهين ضيعنا السنين فى حب الأدب والترجمة والبنات.
(فخ الإخلاص)