بالتزامن مع معرض أبوظبى الدولى للكتاب، واحتفاء بمرور عشرة أعوام على انطلاق مشروع "كلمة" للترجمة فى هيئة أبوظبى للسياحة والثقافة، أصدر "كلمة" الترجمة العربية لكتاب "حضارات السند البائد" للكاتب أندرو روبنسون، نقله إلى العربيّة الدكتور مصطفى قاسم.
ثمة إجماع بين المؤرخين وعلماء الآثار على أن الحضارة ظهرت، متزامنة تقريباً، على الأراضى المروية على طول ضفاف ثلاثة نظم نهرية، دجلة والفرات فى بلاد ما بين النهرين، والنيل فى مصر، والسند وروافده فى شمال غرب شبه الجزيرة الهندية، كان للمدن السومرية التى يربو عددها على عشر والتى ظهرت بالقرب من مصب نهرى دجلة والفرات بين العامين 3500 و3000 ق.م، أسبقية زمنية بسيطة على الحضارتين المصرية والسندية اللتين انبثق فيهما تعقيد اجتماعى مماثل بعد نحو ما بين قرنين وخمسة قرون.
امتدت الفترة المبكرة لحضارة السند بين نحو العامين 3500 و2600 ق.م، إذ فى العام الأول بدأ استيطان هَرَبّا وربما موهنجو دارو الواقعتين على نهر السند وأحد روافده، اللتين كانتا فى أثناء طور "نضج" حضارة السند الممتد بين نحو العامين 2600 و1900 ق.م تضاهيان مدنا مثل ممفيس فى مصر وأور فى بلاد ما بين النهرين. وبين نحو العامين 1900 و1700 ق.م، ولأسباب غير معلومة حتى الآن، دخلت حضارة السند طورها المتأخر وبدأت المدن السندية فى الأفول، والكتابة السندية فى الاختفاء، وأخذ الناس يهجرون المدن.
للوهلة الأولى، تبدو حضارة السند مغبونة مقارنة بالنجمين الحضاريين الآخرين: مصر وبلاد ما بين النهرين، وهو ما يمكن إرجاعه إلى وضعية هذه الحضارة من حيث الإنجاز الفنى والمعمارى والثقافى والفكرى مقارنة بالحضارتين الأخريين من جانب، ومن جانب آخر إلى مدى انكشاف هذه الحضارة وحاضنتها الاجتماعية والثقافية والسياسية للعالم، أيضا مقارنة بالحضارتين الأخريين. فإنجاز هذه الحضارة، أو ما بقى منه، أو ما تكشف منه على الأقل، لا يضاهى بحال من الأحوال إنجاز حضارة مصر وبلاد ما بين النهرين فنيا ومعماريا وثقافيا وفكريا، والأهم من ذلك- أو قل ربما يكمن أحد الأسباب الأساسية وراء ذلك في- أن الكتابة السندية لم تفك رموزها حتى الآن بعد نحو قرن شهد أكثر من مائة محاولة فاشلة لفك مغالقها.
مرد الغبن الواقع على حضارة السند نوعان، واحد قهرى لا دخل للحضارة فيه، وآخر ناتج عن الأول لكنه يفصح عن أنها لا يمكن بحال من الأحوال أن تقف ندا لحضارة مصر وبلاد ما بين النهرين. أما السبب الخارج عن سيطرة هذه الحضارة وصنّاعها، فهو أنها ظلت منسية تماما ولا يعرف عنها أى شيء تقريبا، على خلاف حضارتى مصر وبلاد ما بين النهرين اللتين، وإن لم تفك رموز كتابتهما وتكتشف أسرار الحياة فيهما إلا منذ نحو قرنين (الكتابة المسمارية السومرية، 1815) وأكثر قليلا من قرنين (الكتابة الهيروغليفية المصرية، 1799)، كانتا على مر التاريخ محط أنظار الشعوب الوارثة لهما والغزاة والرحالة الأجانب ومثار إعجابهم ودهشتهم.
وحتى بعد أن اكتشفت حضارة السند فى أوائل القرن العشرين، ظلت الحاضنة الفكرية والثقافية والاجتماعية والسياسية لهذه الحضارة طلاسم، وذلك فى المقام الأول بسبب عدم النجاح حتى الآن فى فك رموز كتابتها التى يفترض أنها تحوى هذه الأفكار.
ربما كان شعب السند أقدم فى الاستقرار من شعبى مصر وبلاد ما بين النهرين القديمتين، إذ ترجع أقدم المستوطنات الواقعة فى مهرغره ببلوشستان إلى العام 7000 ق.م. وكذلك غطت حضارتهم مساحة أوسع كثيرا من مساحة مصر أو بلاد ما بين النهرين. وعلى الرغم من اتساع رقعة انتشاره، ربما أوجد شعب السند نوعا من الوحدة السياسية تجلت فى تماثل حضارته ومنتجاتها الفنية والمادية، وبنوا بيوتا وبنايات عامة من الطوب اللبن والطوب المحروق، وشيّدوا نظاما للصرف الصحى لم يظهر له ند حتى زمن الإمبراطورية الرومانية، وزرعوا الشعير والقمح والبقوليات، ودجنوا الأغنام والماعز وجاموس الماء، وصنعوا الأختام الحجرية والخرز والأساور والسفن واستخدموها فى تجارة المسافات الطويلة التى وصلت حتى الخليج العربى والمدن النهرية السومرية.
لكن هل تتمثل الحضارة فقط أو فى المقام الأول فى قِدم الاستقرار بديلا عن الترحال، وتدجين النبات والحيوان بديلا عن الجمع والصيد، أو حتى صنع الأدوات وتشييد البنايات؟ لا شك أن ذلك جزء أصيل من معنى الحضارة، يمكن أن نسميه "المكون الصلب" hardware لها، لكن هناك الجزء الأهم المتمثل فى الفكر أو طريقة إدارة الجماعة الإنسانية software. فإلى جانب الاستقرار والتدجين وتشييد البنايات، وربما قبله، كانت الحضارة انتقالا بالبشر من حالة الطبيعة إلى حالة المجتمع وانتقالا بالبشر من حالة التوحش إلى حالة الإنسانية.
تتجسد الحضارة -إذن- باختصار فى الأفكار والقيم والمبادئ من النوع الذى تحويه الاقتباسات التى تصدر هذا المقال، وما فرضته هذه الأفكار من ضرورة بناء مؤسسات لتنفيذها والسهر عليها. فبهذه الأفكار والمؤسسات فقط، انبثق الإنسان الأخلاقى صاحب الضمير، كما فى رأى جيمس هنرى برستد صاحب كتاب "فجر الضمير". ومن أجل إنفاذ هذه الأخلاق والمبادئ والمثل، ظهرت مؤسسات الدولة والقانون وغيرها.
ما مدى تقييم حضارة وادى السند فى ضوء هذا التعريف للحضارة؟ حتى على الجانب المادى لا تضاهى منتجاتها منتجات حضارة مصر وبلاد ما بين النهرين بأى حال من الأحوال. أما على الجانب الفكرى والأخلاقى والمؤسسي، فإننا رغم مرور ما يناهز القرن من الاكتشافات والبحوث الأثرية لا زلنا لا نعرف شيئا يقينيا عنه، أو حتى معلومات كافية لبناء صورة واضحة مكتملة له.
لكن أليس من الوارد أن يكون الجانب الفكرى موجودا بقوة فى حضارة السند وأن يفصح عنه نفسه لنا فى حال ما فُكت رموز الكتابة السندية؟ للأسف لا يعد ذلك احتمالا واردا. فعلى مستوى وجود مؤسسة الدولة، فإن تماثل مدن مثل هَرَبّا وموهنجو دارو يؤكد وجود دولة موحدة، بينما يدحض تنوع الحضارة واتساع رقعتها هذه الفكرة. وحتى لو كانت حضارة السند قد تشكلت من دول مدينية وليس دولة موحدة- وهذا ليس نقيصة فى الحضارة- فإنها على الأرجح لم تعرف نوع سلطة الحاكم الفرد الذى عرفته حضارتا مصر وبلاد ما بين النهرين وأورثتاه للبشرية. وغياب الملوك والبلاطات الملكية والأسلحة العسكرية والقصور والمعابد العامة ينبئ بأن هذه الحضارة لم تُمارس فيها سلطة من النوع الذى عرف فى الحضارتين الأخريين، وربما أيضا لم تشهد دولة ومؤسسات من النوع الذى يتبع وجود الدولة.
وهب أن الكتابة السندية قد فُكت رموزها، هل يمكن أن تحوى أفكارا وقيما ومثلا، وتكشف عن مؤسسات، من النوع الذى ينقل البشر من حالة الطبيعة إلى حالة المجتمع ومن طور التوحش إلى طور الإنسانية؟ للأسف أيضا يبدو أن الإجابة المرجحة هى لا. فعدد ما يعتقد أنه نصوص سندية قليل مقارنة بالحضارات الأخرى، والأهم من ذلك أن حجم كل نص- وهى فى الغالب نقوش الأختام الحجرية- لا يتجاوز خمسة رموز. دفع ذلك البعض إلى الشك فى أن النقوش السندية تنتمى أصلا إلى نظم الكتابة. وحتى لو كانت كتابة وفُكت شفرتها، فمن غير الوارد أن تكون على قِصرها حاوية لأفكار من النوع الصانع للحضارة.
ومع ذلك، تظل حضارة (أو حضارات) السند جزءا من ميراث البشرية، بل وربما تمثل أيضا- بسبب ما نعده نواقص فيها مثل غياب المُلك والأسلحة والحرب- أملا ومبعث تفاؤل للبشرية فى مستقبل يختلف عن الحاضر الذى نتج عن حضارتى مصر وبلاد ما بين النهرين المُعَسكرتين. وربما يأتى الحل لكشف أسرار حضارة السند من منطقتنا العربية: من بلاد ما بين النهرين (العراق) أو فيلكا (الكويت) أو دلمون (البحرين) أو مغان (عُمان) التى ربطتها بحضارة السند علاقات تجارية وربما ثقافية ووجدت فيها منتجات سندية مثل الأختام الحجرية والخرز وغيرها.