بعد الهجوم الإرهابى مساء أمس الأول "الاثنين" أثناء حفل غنائى للمغنية الأمريكية أريانا جراندى ما أسفر عن مقتل وإصابة عشرات الأشخاص وتصاعد حالة "اللا يقين"، فإن الملاحظة المهمة فى هذا السياق والتى تتردد فى أطروحات لمثقفين كبار فى الغرب تتلخص فى أن: "رد الفعل المذعور هو بالضبط ما يريده الإرهابيون فى كل مكان فى عالمنا المصاب بإيدز الكراهية"!
وكان تنظيم داعش الإرهابى قد أعلن مسئوليته عن حادث مانشستر لتتصاعد حالة الاستنفار الأمنى سواء فى بريطانيا أو غيرها من الدول حول العالم وهو استنفار طبيعى ومطلوب بعيدًا عن فرض ثقافة الخوف على البشر التى تطمح لها التنظيمات الإرهابية.
وهذا الحادث الإرهابى الجديد فى شمال إنجلترا يبرهن مجددًا على مدى صواب الرؤية المصرية التى طرحها الرئيس عبد الفتاح السيسى فى القمة العربية الإسلامية الأمريكية الأخيرة بالرياض عندما أكد ضرورة المواجهة الشاملة والمتزامنة ضد جميع التنظيمات الإرهابية، موضحًا أن هذه التنظيمات "تنشط عبر شبكة سرطانية تجمعها روابط متعددة فى معظم أنحاء العالم، ومن ثم فلا مجال لاختصار المواجهة فى مسرح عمليات دون الآخر".
ومصر التى تحارب الإرهاب بقدر ما تتبنى رؤية شاملة لحرب شاملة ضد هذا الخطر الذى يستهدف الإنسانية كلها، إنما تنتصر لثقافة الاستنارة والاحتفال بالحياة والسعى للتقدم وترفض ثقافة الخوف التى تسعى تنظيمات الإرهاب الظلامى لفرضها على العالم متوسلة فى ذلك حتى بالقتل العشوائى لأبرياء فى كل مكان.
إنها الرغبة الظلامية فى فرض زمن القتل العشوائى الذى تجاوز قبح مراحل مثل القتل على الهوية فالقاتل الآن يقتل بلا أى معايير سوى الرغبة فى بث الذعر فى النفوس وترويع البشر فى كل مكان لخلق حالة رهاب فى النفوس كما لاحظ عالم اقتصاد حاصل على جائزة نوبل ومثقف أمريكى كبير وهو البروفيسور بول كروجمان.
من هنا علينا ألا "نخاف من الخوف" وألا نسمح للخوف بأن يشل تفكيرنا ويعطل أوجه الحياة اليومية، كما يقول بول كروجمان، ولهذا فهو يختلف مع ما ذهب إليه البعض فى الغرب من الذين وصفوا تلك الهجمات الإرهابية بأنها "محاولة لتدمير الحضارة الغربية".
فالأمر عند كروجمان كما أوضح فى طرح بجريدة "نيويورك تايمز"، يختلف عن هذا التوصيف المتسرع حتى من جانب بعض الساسة فى الولايات المتحدة والغرب عموما، فالإرهاب مهما فعل لن ينجح فى تدمير الحضارة الغربية، كما يقول عالم الاقتصاد الكبير، وإنما تلك الهجمات الإرهابية، "محاولة منظمة لبث الذعر فى النفوس".
وإذا كان مفكر مصرى مهموم بإشكالية الإرهاب مثل مراد وهبة يرى أن أحد جوانب الإشكالية يكمن فى "توهم البعض امتلاك الحقيقة المطلقة" فى عالم نسبى ففى عالمنا الأرضى وعلاقاته بين البشر واحتمالاته ووقائعه النسبية بالضرورة مخطيء من يتحدث عنه بلغة اليقين؛ لأن "اللايقين" سمة أساسية من سمات هذا العالم النسبي.
وفى سعيه الفلسفى المنتصر للحياة الإنسانية بنسبيتها وفى مواجهة اشكالية الإرهاب يدعو المفكر المصرى مراد وهبة لتدشين ما يسميها "المدرسة الرشدية الجديدة" أو "تيار فكر ابن رشد" نسبة للمفكر الأندلسى المسلم الذى قامت الكثير من قواعد الحضارة الغربية الحديثة على أفكاره التنويرية والتى أدركت نسبية الأشياء فى العالم الإنساني.
واللايقين يعنى ضمنا اننا نعيش تحت الخطر الذى يسعى الإرهاب لتعظيمه كما تخلص دراسة فلسفية رائعة حقا للبروفيسور قنسطنين سانديز؛ أستاذ الفلسفة بجامعة اكسفورد والبروفيسور نسيم طالب؛ أستاذ علم المخاطر بكلية الهندسة فى جامعة نيويورك.
وفى هذه الدراسة المشتركة بين عالمين كبيرين إقرار بأن عالمنا النسبى حافل بالمخاطر وتذكير بأننا لا نعرف أبدا ما تخفيه لنا اللحظة القادمة، ولكن السؤال الكبير يدور حول سبل تقليل المخاطر.
وإجابة السؤال تكمن فى السعى المستمر لامتلاك المعلومات والقدرات التى تقلل قدر الإمكان من المخاطر لكنها لن تقضى عليها تماما فى عالمنا.
إنها معركة الإنسان مع المجهول والتى تستدعى دوما الأخذ بالأسباب مع ادراك راشد لحقيقة جوهرية وهى أن الإنسان كتب عليه أن يعيش فى هذه الأرض فى ظل مخاطر مستمرة وأن يمضى دوما فى "صياغة معادلات تقريبية" تمكنه من الحياة فى مواجهة هذه المخاطر والسيطرة عليها وهى "معادلات نسبية فى عالم نسبي"!
من هنا لا داعى للمزايدات ومحاولات بعض الأطراف فى هذا العالم تحقيق مكاسب سياسية من محاولات منظمة من جانب إرهابيين لزرع الرهاب وبث الذعر فى النفوس.. تماما كما أنه لا يجوز استغلال هذه الحالة لتبرير مظالم ضد أبرياء لم يتورطوا من قريب أو بعيد فى جرائم الإرهاب.
فما يفعله الإرهاب فى نظر بول كروجمان؛ "محاولة منظمة لبث الذعر فى النفوس"؛ وقد يؤدى هذا الذعر لاستجابات وردود أفعال خاطئة وهذا ما يريده الإرهابيون أيضا وهم يهمهم جدا استغلال هذه الحالة لتصوير أنفسهم "كقوة لا تقهر" مع أنهم فى نهاية المطاف مجموعة من أصحاب العاهات النفسية والمصابين بإيدز الكراهية ومصيرهم كفئة باغية إلى هزيمة وزوال.
وها هو بول كروجمان يؤكد أن الدول التى تتعرض لحوادث إرهابية أقوى وأكبر بكثير من أن تهزم أمام جماعة إرهابية مهما فعل الإرهابيون، كما يقطع بحسابات العالم وروح المثقف أن هذا الاحتمال غير وارد، فيما يرى أن التحول فى استراتيجيات الإرهاب وتبنى أسلوب القتل العشوائى علامة ضعف ودليل على يأس الإرهابيين.
ويشدد كروجمان على أن أى "تهدئة أو استرضاء لجماعات الإرهاب"، انما يشكل خطأ تاريخيا فادحا، فيما يطالب باتخاذ كل الأسباب لدحر الإرهاب، لكنه يقر فى الوقت ذاته بأن المسألة ليست سهلة فى عالم الواقع بتعقيداته وثغراته التى لم تنجح حتى القوى العظمى فى سدها تماما كما تجلى فى مأساة 11 سبتمبر 2001 بالولايات المتحدة وكما حدث فى دول مثل فرنسا.
قد يكون علينا فى مشهد كهذا ألا نسمح للإرهاب بتغيير فطرتنا الإنسانية السوية أو شد اهتمامنا بعيدا عن السعى المطلوب لصنع غد أفضل لا مكان فيه لإيدز الكراهية والقتل العشوائى والأعمى للبشر.. والأكثر أهمية ألا نسمح بتحويل العالم إلى بيئة مذعورة تعانى من الرهاب بفعل الإرهاب الذى لا يملك أى شيء سوى زرع الخوف كما يقول هذا المثقف الأمريكى الكبير.
إن كل مثقف ملتزم بقضايا الإنسانية يثق بالنصر على أعداء الحياة بقدر ما يحتفل بالحياة ويحلم بعالم أفضل.. نعم الإرهاب لن ينجح فى فرض ثقافة الخوف على العالم ولن يكون ظلاما يعشقه الظلاميون.. للعالم أن يتبنى الرؤية المصرية المخلصة لمحاربة الإرهاب بصورة شاملة حتى تنتصر الحياة على أصحاب فتنة الدم والظلام.