لعل ذكرى ميلاد نجيب محفوظ الـ106، تكون ملائمة لعرض كم التقدير الذى ناله إبداع محفوظ لدى المترجمين والمستشرقين والنقاد فى العالم والذى ربما لا نعرف عنه سوى القدر اليسير الذى يصل إلينا دون عناء منّا جميعًا فى البحث، ولعل ذلك ما يخالف ما قام به محفوظ نفسه من الاعتراف بفضل من شكّلوا وعيه كما فعل هو معنا كما ذكر محفوظ "عندما أكتب أتذكر لا إراديًا من علمونى فى الكتب أو فى المدارس، ولذلك حين أفكر فى الخدمات التى قدمها لى من كوّنونى ثقافيًا أشعر أننى مديون بأكثر من ديون مصر، وعندما أقدم رواية لى للطبع أسأل نفسى عما لى فيها؟ هل هى اللغة؟ إن اللغة موجودة من أيام الجاهلية، هل هو الفكر؟ إن الدنيا مليئة بالأفكار، هل هو المذهب؟ أنشأها ناس دفعوا ثمنًا غاليًا، هل هو الفن؟ إنه موجود فى كل مكان، إذن ما الذى أكون قد فعلته لأستحق أن يوضع أسمى على رواية لى؟".
استطاع محفوظ عبر أكثر من ستين عاما أن يختط قواعد الكتابة السردية العربية التى أضحت مجالا لإخراج معظم الكتاب العرب من عباءة محفوظ، وذلك لأن القصص الاجتماعى يتجلى فيه إبرز الطرائق السردية من خلال عناصر متعددة منها، اللغة وتكاثر الأحداث واستفاضتها داخل كل نص ثم علاقة السارد بتلك الأحداث، ومن ثم وقع تواجد تلك الشخصيات داخلها، فيشعر القارئ منذ كلمات النص الأولى أنه أمام وصف دقيق تتجسد فيه مرحلة طويلة من العمر، تحمل خبرة محفوظ المترامية فى الكتابة الإبداعية عبر بنية سردية - بين القص والواقع الذى يعتمد على المكاشفة.
وقد بلغ محفوظ قمَّته الأدبية عندما أضاف إلى الحياة الأدبية ثلاثيته بين القصرين – قصر الشوق ثم السكرية –التى ظهرت بين عامى 1956-1957، كما إن روايات نجيب محفوظ الطويلة والقصيرة تسجيل رائع لأزمات المجتمع المصرى وتطوراته الروحية .. لذلك فنجيب محفوظ مصدر من المصادر الرئيسية لدراسة مصر وفهمها خلال هذه المرحلة وتعبير عن مشاكلها الاجتماعية والنفسية".
وقد استمر تلقى المستشرقين والمترجمين لإبداع نجيب محفوظ لسنوات تربو عن النصف قرن وذلك لأن محفوظ ونصوصه الروائية الفلسفية / الاجتماعية هى التى فرضت على العالم العربى والغربى حتى الآن قراءة نصوصه التى بقيت حتى بعد رحيله الجسدى عن عالمنا.
لعل تلك البداية ملائمة لما يمكن أن نعرفه عن تلقى العالم الغربى لنصوص نجيب محفوظ المختلفة ففى (تاريخ كمبردج للأدب العربى الحديث، تحرير مصطفى بدوى وصبرى حافظ، تُرجِم وصدر باللغة العربية عن النادى الأدبى الثقافى بجدة 2006) كتبت المستشرقة الإنجليزية هيلارى كيلباترك على حقبة الخمسينيات فى أدب محفوظ وما بعدها نظراً لاهتمامها بالكتابة عن"الواقعية" أولاً ثم " تجريب ما بعد الواقعية"، حيث تدل رواية نجيب محفوظ أولاد حارتنا (1959) على بداية هذه المرحلة الجديدة فى الكتابة وفى رحلة محفوظ أيضاً.
تشترك روايات محفوظ الخمس التالية، المنشورة بين عامى 1961/1966 فى بعض الخصائص ، ففى كل رواية يدخل البطل فى بحث يتمحور حول أسئلة أساسية تتعلق بوجود الإنسان: كمعنى الحياة والمسؤولية والموت، فى حين أن لديه بعض الاهتمامات الأخرى. أما الحبكة التى تظهر فى كل رواية فهى ذات مستوى واحد، ومركز الاهتمام هو وعى البطل ، وتفكيره وأسبابه الغريزية وتدفق مشاعره، فالأحداث الخارجية مهمة بقدر ما لها من تأثير على سلوكه وخبرته بالعالم من حوله فقط.
يبدو أن"محفوظ" فى هذه المرحلة قد احتاج لعالم الرذيلة والإجرام لاستثارة خيالة الشعرى إلى أقصى مداه، ربما بسبب موقفه الشخصى الراسخ فى الحياة، هناك روايتان غائبتان عن عالم الرذيلة والجريمة هما"السمان والخريف" 1962، و "الشحاذ" 1965، تتعقب الرواية الأولى أزمة سياسى سابق من حزب الوفد لم يستطع أن يتوافق مع الثورة التى حطمت مستقبله الواعد ولم تنجز الكثير من الأهداف التى وضعها حزبه. وفى الرواية الثانية يشعر محام ناجح فجأة بعبث حياته المملة، ثم ينهار باحثا عن النشوة من خلال الجنس أولاً ثم عن طريق التصوف لاحقاً، بينما هو واقع تحت إحساس بأنه قد خان مبادئ شبابه الاشتراكية. ومع أن هاتين الروايتين بارعتان من ناحية التكتيك ؛ إلا أنهما تعانيان من عقلانية عامة وأحياناً عرض غير متعاطف لوعى البطل وكذلك من فقر مؤكد للخيال.
وفى رواية "ثرثرة فوق النيل" 1966 يظل وعى الشخصية الرئيسية هو الذى تنعكس من خلاله الأحداث وتبعاُ لذلك يمتنع المؤلف عن إبداء أى أحكام أخلاقية، و تيمة الاغتراب تبدو مع تعاطى كل الشخصيات للمخدرات بل إدمانها لها وذلك يجعلها أكثر إيغالا على طريق الاغتراب من الهموم الدنيوية. إن مكان لقاءهم الذى يقع فى عوامة على النيل وتدور فيه معظم أحداث الرواية يوحى بعلاقتهم العرضية بواقع الحياة المصرية اليومية. كما أن أساس هذه الرواية هو جلسة الحشيش المسائية المعتادة (وهى عنصر بنائى مشابه للقاءات المعتادة بين أحمد عبد الجواد وأصدقاءه فى الثلاثية) التى يشرف عليها أنيس زكى وهو موظف مدنى بسيط هارب من حزنه بسبب موت زوجته وابنته، والذى يبدو من خلال وحدته فى المدينة وخيبة أمله فى عمله التافه والكئيب، إنه قد نجح تقريباً فى فصل نفسه عن المجتمع؛ أما أعضاء المجموعة الباقون فهم ممثل سينمائى، وفتاة مدمنة، وكاتب قصة قصيرة ومحام وصحفى وناقد وموظفان ناجحان أحدهما نموذج للمرأة المتحررة التى تمثل قطاعات مختلفة من الطبقة المتوسطة الجديدة المزدهرة، كما أنهم جميعا فى مواجهة هذا المجتمع لا يملكون سبباً للهروب من الواقع ، لكنهم يعانون من الإحساس بالفشل والفساد الأخلاقي. إن رواية " ثرثرة فوق النيل" بشكل جلى تعدّ تعليقاً على جوانب معينة فى المجتمع المصرى فى منتصف الستينيات، مع كشف انتهازية وتشاؤمه وخيبة أمله من خطاب الحكومة، كما ان الإحساس بالضعف فى التأثير على الأحداث يمكن أن يُنظر إليه كنبوءة لهزيمة 1967.
و يقدم المترجم الكبير دينيس جونسون ديفيز(عاشق ترجمة الأدب العربى على مدار أكثر من نصف قرن وقد السبب الرئيسى والمرشح لنيل محفوظ لجائزة نوبل) فى مذكراته فصلين عن محفوظ كما صدرت المذكرات عن قسم النشر بالجامعة الامريكية بتقديم نجيب محفوظ ، وايضا من قدم ترجمة بديعة لأصداء السيرة الذاتية لنجيب محفوظ والتى جاءت بمقدمة فائضة للكاتبة الجنوب إفريقية الكبيرة نادين جورديمير التى حظيت بنوبل 1991 بعد نجيب محفوظ بثلاثة اعوام فكانا اول كاتبين يحصلان على الجائزة من قارة إفريقيا . تقرر جورديمر فى المقدمة ان نجيب محفوظ رجل مُسن ومن الطبيعى بالنسبة له أن يتفكر بإمعان فى القضاء والقدر اللذين لا مفر من التصديق بهما إنهما قدر محتوم للمؤمنين والمتشككين على حد سواء، لكن بعضنا ممن يقوم بعمله يعرف أنه يحمل فكرة الموت فى ذهنه مثل جزء من سؤال الوجود عن كون الحياة نفسها.
عامة كلنا نماذج فى بنية اجتماعية نتحول خلالها إلى انعكاس لقوة البيروقراطية، حيث المصلحة القومية مَثَلُ لتنظيم الوجود والطموح العظيم لعمل مهيب، تلك هى القصة الرمزية للموت التى لابد أن يلقب بها نص "الحركة القادمة " (داخل أصداء السيرة الذاتية) فالسؤال فيه يكون عن النهاية الرمزية للإنسان الذى ربما يسأل نفسه الآن" لما لم تُهئ نفسك لمصير لا مفر منه؟(ص7)، عندما تتأمل فى شخصيات محفوظ الخيالية مبكراً جدا تجدها تدور حول سؤال" لماذا لا تجهز نفسك لذلك عندما تعرف قدرك الحتمى؟".وربما قال شخص،مع ذلك، إنه يأخذ فكرة القدر ونهايته المحتومة بعين الاعتبار لكنه يتجنب الحديث فيه ويبرر دائما افعاله.